للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سُمِّيَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْفُسُهَا بِالْبَصَائِرِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.

أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ، فَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَتَبْلِيغِ الدَّلَالَةِ وَالْبَيِّنَاتِ فِيهَا، وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا قَصَّرَ فِي تَبْلِيغِهَا وَإِيضَاحِهَا وَإِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ عَنْهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ، فَإِقْدَامُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْكُفْرِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَنَفْعُهُ وَضَرُّهُ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى مَنْ أَبْصَرَ الْحَقَّ وَآمَنَ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ، وَإِيَّاهَا نَفَعَ، وَمَنْ عَمِيَ عَنْهُ فَعَلَى نَفْسِهِ عَمِيَ وَإِيَّاهَا ضَرَّ بِالْعَمَى وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أَحْفَظُ أَعْمَالَكُمْ وَأُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا. إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ واللَّه هُوَ الْحَفِيظُ عَلَيْكُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ ذَكَرَهَا الْقَاضِي: فَالْأَوَّلُ: الْغَرَضُ بِهَذِهِ الْبَصَائِرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا اخْتِيَارًا اسْتَحَقَّ بِهَا الثَّوَابَ لَا أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ يَلْجَأَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ هَذَا الْغَرَضَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا دَلَّنَا وَبَيَّنَ لَنَا مَنَافِعَ، وَأَغْرَاضُ الْمَنَافِعِ تَعُودُ إِلَيْنَا لَا لِمَنَافِعَ تَعُودُ إِلَى اللَّه تَعَالَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرْءَ بِعُدُولِهِ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ يَضُرُّ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ لَا مِنْ قِبَلِ رَبِّهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها قَالَ: وَفِيهِ إِبْطَالُ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ فِي الْمَخْلُوقِ، وَفِي أَنَّهُ تَعَالَى يُكَلِّفُ بِلَا قُدْرَةٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى شَرَعَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلَا طَرِيقَ فِيهِ إِلَّا مُعَارَضَتُهُ بِسُؤَالِ الدَّاعِي فَإِنَّهُ يَهْدِمُ كُلَّ مَا يَذْكُرُونَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْإِبْصَارِ هَاهُنَا الْعِلْمُ، وَمِنَ الْعَمَى الْجَهْلُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: ٤٦] .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلُهُ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها مَعْنَاهُ لَا آخُذُكُمْ بِالْإِيمَانِ أَخْذَ الْحَفِيظِ عَلَيْكُمْ وَالْوَكِيلِ. قَالُوا: وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، فَلَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ صَارَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ آيَةُ الْقِتَالِ نَاسِخَةٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ مَشْغُوفُونَ بِتَكْثِيرِ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَالْحَقُّ مَا تُقَرِّرُهُ أَصْحَابُ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ، فوجب السعي في تقليله بقدر الإمكان.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٥]]

وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)

[في قوله تعالى وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ شَرَعَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي إِثْبَاتِ/ النُّبُوَّاتِ فَبَدَأَ تَعَالَى بِحِكَايَةِ شُبُهَاتِ الْمُنْكِرِينَ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ.

فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ كَلَامٌ تَسْتَفِيدُهُ مِنْ مُدَارَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُبَاحَثَةِ الْفُضَلَاءِ، وَتُنَظِّمُهُ مِنْ عند نفسك، ثم تقرأه عَلَيْنَا، وَتَزْعُمُ أَنَّهُ وَحْيٌ نَزَلَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْهُ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ النَّظْمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>