للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الِاسْتِطَاعَةِ حَتَّى تَزْدَادَ حَسْرَتُهُمْ وَنَدَامَتُهُمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ، حِينَ دُعُوا إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالموا الْأَطْرَافِ وَالْمَفَاصِلِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَمَّا خَصَّصَ عَدَمَ الِاسْتِطَاعَةِ بِالْآخِرَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ، فَبَطَلَ بِهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْكَافِرُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِيمَانِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا حَالَ وُجُودِ الْإِيمَانِ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مُنَافٍ لِوُجُودِ الْإِيمَانِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ مُحَالٌ، فَالِاسْتِطَاعَةُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا غَيْرُ حَاصِلَةٍ عَلَى قَوْلِ الْجُبَّائِيِّ.

أَمَّا قَوْلُهُ: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ فَهُوَ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ ... تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ يَعْنِي يَلْحَقُهُمْ ذُلٌّ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى خِدْمَةِ مَوْلَاهُمْ مِثْلُ الْعَبْدِ الَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ مَوْلَاهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِيلًا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ يَعْنِي حِينَ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى الصَّلَوَاتِ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَكَانُوا سَالِمِينَ قَادِرِينَ عَلَى الصَّلَاةِ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لِمَنْ قَعَدَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَلَمْ يُجِبِ المؤذن إلى إقامة الصلاة في الجماعة.

[[سورة القلم (٦٨) : آية ٤٤]]

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٤٤)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَ الْكُفَّارَ بِعَظَمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ زَادَ فِي التَّخْوِيفِ فَخَوَّفَهُمْ بِمَا عِنْدَهُ، وَفِي قُدْرَتِهِ مِنَ الْقَهْرِ، فَقَالَ: ذَرْنِي وَإِيَّاهُ، يُرِيدُ كِلْهُ إِلَيَّ، فَإِنِّي أَكْفِيكَهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ حَسْبُكَ انْتِقَامًا مِنْهُ أَنْ تَكِلَ أَمْرَهُ إِلَيَّ، وَتُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَإِنِّي عَالِمٌ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ يُقَالُ:

اسْتَدْرَجَهُ إِلَى كَذَا إِذَا اسْتَنْزَلَهُ إِلَيْهِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً، حَتَّى يُوَرِّطَهُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ أَبُو رَوْقٍ:

سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أَيْ كُلَّمَا أَذْنَبُوا ذَنْبًا جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَةً وَأَنْسَيْنَاهُمُ الِاسْتِغْفَارَ، فَالِاسْتِدْرَاجُ إِنَّمَا حَصَلَ فِي الِاغْتِنَاءِ الَّذِي لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ اسْتِدْرَاجٌ، وَهُوَ الْإِنْعَامُ/ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَهُ تَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى المؤمنين، وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم. ثم قال:

[[سورة القلم (٦٨) : آية ٤٥]]

وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥)

أَيْ أُمْهِلُهُمْ كَقَوْلِهِ: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٨] وَأُطِيلُ لَهُمُ الْمُدَّةَ وَالْمُلَاوَةُ الْمُدَّةُ مِنَ الدَّهْرِ، يُقَالُ: أَمْلَى اللَّهُ لَهُ أَيْ أَطَالَ اللَّهُ لَهُ الْمُلَاوَةَ وَالْمَلَوَانِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالْمَلَا مَقْصُورًا الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ سُمِّيَتْ بِهِ لِامْتِدَادِهَا. وَقِيلَ: وَأُمْلِي لَهُمْ أَيْ بِالْمَوْتِ فَلَا أُعَاجِلُهُمْ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا سَمَّى إِحْسَانَهُ كَيْدًا كَمَا سماه استدراجا لكون فِي صُورَةِ الْكَيْدِ، وَوَصَفَهُ بِالْمَتَانَةِ لِقُوَّةِ أَثَرِ إِحْسَانِهِ فِي التَّسَبُّبِ لِلْهَلَاكِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ إِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي سَمَّاهُ بِالِاسْتِدْرَاجِ وَذَلِكَ الْكَيْدُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى جَانِبِ التَّرْكِ، أَوْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ أَثَرٌ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَكَانَ هو سائر الْأَشْيَاءِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يَكُونُ اسْتِدْرَاجًا أَلْبَتَّةَ وَلَا كَيْدًا، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي يَنْسَاقُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاجُ وَذَلِكَ الْكَيْدُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ تَعَالَى لَا يَزَالُ يُؤَكِّدُ هَذَا الْجَانِبَ، وَيُفَتِّرُ ذَلِكَ الْجَانِبَ الْآخَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَأْكِيدَ هَذَا الْجَانِبِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْسَاقَ بِالْآخِرَةِ إِلَى فِعْلِهِ وَدُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِدُخُولِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، أَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: الْمُرَادُ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ إِلَى الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوا الْوَقْتَ الَّذِي يَمُوتُونَ فِيهِ لَصَارُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>