بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة البينة]
(وهي ثمانية آيات مدنية)
[سورة البينة (٩٨) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)
[قوله تعالى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ إلى قوله رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِ «الْبَسِيطِ» : هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَا فِي الْقُرْآنِ نَظْمًا وَتَفْسِيرًا، وَقَدْ تَخَبَّطَ فِيهَا الْكِبَارُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُلَخِّصْ كَيْفِيَّةَ الْإِشْكَالِ فِيهَا وَأَنَا أَقُولُ: وَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ مُنْفَكُّونَ عَنْ مَاذَا لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ، إِذِ الْمُرَادُ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ، ثُمَّ إِنَّ كَلِمَةَ حَتَّى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ صَارُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ عِنْدَ إِتْيَانِ الرَّسُولِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُفْرَهُمْ قَدِ ازْدَادَ عِنْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ مُنَاقَضَةٌ فِي الظَّاهِرِ، هَذَا مُنْتَهَى الْإِشْكَالِ فِيمَا أَظُنُّ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: وَأَحْسَنُهَا الْوَجْهُ الَّذِي لَخَّصَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، كَانُوا يَقُولُونَ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نَنْفَكُّ عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ دِينِنَا، وَلَا نَتْرُكُهُ حَتَّى يُبْعَثَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ الَّذِي هُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَعْنِي/ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ اجْتِمَاعَ الْكَلِمَةِ وَالِاتِّفَاقَ عَلَى الْحَقِّ إِذَا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ، ثُمَّ مَا فَرَّقَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَلَا أَقَرَّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إِلَّا مَجِيءُ الرَّسُولِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ الْفَقِيرُ الْفَاسِقُ لِمَنْ يَعِظُهُ: لَسْتُ أَمْتَنِعُ مِمَّا أَنَا فِيهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ حَتَّى يَرْزُقَنِي اللَّهُ الْغِنَى، فَلَمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ الْغِنَى ازْدَادَ فِسْقًا فَيَقُولُ وَاعِظُهُ: لَمْ تَكُنْ مُنْفَكًّا عَنِ الْفِسْقِ حَتَّى تُوسِرَ، وَمَا غَمَسْتَ رأسك في الفسق إلا بعد اليسار بذكره مَا كَانَ يَقُولُهُ تَوْبِيخًا وَإِلْزَامًا، وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute