الَّذِي صَارَ غِذَاءً فَالْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِهِ كَالْكَلَامِ فِي تَوَلُّدِ الْإِنْسَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَغْذِيَةِ هُوَ النَّبَاتُ، وَالنَّبَاتُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنِ امْتِزَاجِ الْأَرْضِ بِالْمَاءِ وَهُوَ الطِّينُ اللَّازِبُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ كُلَّ الْخَلْقِ مُتَوَلِّدُونَ مِنَ الطِّينِ اللَّازِبِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ الَّتِي مِنْهَا تَرَكَّبَ هَذَا الطِّينُ اللَّازِبُ قَابِلَةٌ لِلْحَيَاةِ وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الْقَابِلِيَّةُ وَالْقَادِرِيَّةُ وَاجِبَةُ الْبَقَاءِ فَوَجَبَ بَقَاءُ هَذِهِ الصِّحَّةِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ وَهَذِهِ بَيَانَاتٌ ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ، وَأَمَّا اللَّازِبُ فَقِيلَ اللَّاصِقُ، وَقِيلَ اللَّزِجُ وَقِيلَ الْحَتِدُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي لَازِبٍ بَدَلٌ مِنَ الْمِيمِ يُقَالُ لَازِبٌ وَلَازِمٌ. ثم قال تعالى:
[[سورة الصافات (٣٧) : آية ١٢]]
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ أَقَرُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَكْوِينِ أَشْيَاءَ أَصْعَبَ مِنْ إِعَادَةِ الْحَيَاةِ إِلَى هَذِهِ الْأَجْسَادِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي صَرَائِحِ الْعُقُولِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْأَشَقِّ الْأَشَدِّ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْأَسْهَلِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ مَعَ قِيَامِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ بَقِيَ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ مُصِرِّينَ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَهَذَا فِي مَوْضِعِ التَّعَجُّبِ الشَّدِيدِ فَإِنَّ مَعَ ظُهُورِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الْجَلِيَّةِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ يُعْقَلُ بَقَاءُ الْقَوْمِ عَلَى الْإِصْرَارِ فِيهِ. فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ تَتَعَجَّبُ مِنْ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْإِنْكَارِ وَهُمْ فِي طَرَفِ الْإِنْكَارِ وَصَلُوا إِلَى حَيْثُ يَسْخَرُونَ مِنْكَ فِي قَوْلِكَ بِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عَجِبْتَ بِضَمِّ التَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَالضَّمُّ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وإبراهيم ويحيى بن وثاب وَالْأَعْمَشِ وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَاخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ، أَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالْفَتْحِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالضَّمِّ تَدُلُّ عَلَى إِسْنَادِ الْعَجَبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ التَّعَجُّبَ حَالَةٌ تَحْصُلُ عِنْدَ الْجَهْلِ بِصِفَةِ الشَّيْءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَهْلَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ التَّعَجُّبَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً [الرَّعْدِ:
٥] ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ والظاهر أنهم إنما سَخِرُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ التَّعَجُّبِ فَلَمَّا سَخِرُوا مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّعَجُّبُ صَادِرًا مِنْهُ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِضَمِّ التَّاءِ، فَقَدْ أَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالضَّمِّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إسناد التعجب إلى الله تعالى، وبيانه أن يَكُونُ التَّقْدِيرُ قُلْ يَا مُحَمَّدُ (بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ) وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مَرْيَمَ: ٣٨] مَعْنَاهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مَا تَقُولُونَ فِيهِ أَنْتُمْ هَذَا النَّحْوَ مِنَ الْكَلَامِ، وَكَذَلِكَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [الْبَقَرَةِ: ١٧٥] الثَّانِي:
سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إِضَافَةَ التَّعَجُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ؟ وَيُرْوَى أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يَخْتَارُ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ وَيَقُولُ الْعَجَبُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ لَا يَعْلَمُ، قَالَ الْأَعْمَشُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ إِنَّ شُرَيْحًا يَعْجَبُ بِعِلْمِهِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمَ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالضَّمِّ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ نَقُولَ: دَلَّ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ عَلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الْعَجَبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرَّعْدِ: ٥] وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَعْجَبْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَهُوَ أَيْضًا عَجَبٌ عِنْدِي، وَأُجِيبَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ عِنْدَكُمْ، وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ إِلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ، وَعَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ شَابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ»
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافُ الْعَجَبِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ كَمَا قَالَ: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute