للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَاصِلًا فِي حَيِّزٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ مَوْجُودًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ مَوْجُودًا لَكَانَ شَيْئًا ولكان مقدور الله لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِذَا كَانَ تَحَقُّقُ ذَلِكَ الْحَيِّزِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَبِإِيجَادِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى تَحَقُّقِ ذَلِكَ الْحَيِّزِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُجُودُ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ مُحَقَّقًا مِنْ غَيْرِ حَيِّزٍ وَلَهُ جِهَةٌ أَصْلًا وَالْأَزَلِيُّ لَا يَزُولُ أَلْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ أَزَلًا وَأَبَدًا.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا: بِيَدِهِ الْمُلْكُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِيَدِهِ الْمُلْكُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ مُرَادُ الْعَبْدِ وَلَا يَقَعُ مُرَادُ اللَّهِ، لَكَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ، وَبِأَنْ لَا يَكُونَ مَالِكَ الْمُلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَدَلَّ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَالِكَ الْمُلْكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: الْقَدِيرُ مُبَالَغَةٌ فِي الْقَادِرِ، فَلَمَّا كَانَ قَدِيرًا عَلَى كُلِّ الْأَشْيَاءِ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ أَلْبَتَّةَ مَانِعٌ عَنْ إِيجَادِ شَيْءٍ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ الْوُجُوبُ مَانِعًا لَهُ مِنَ التَّرْكِ وَأَنْ لَا يَقْبُحَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ الْقُبْحُ مَانِعًا لَهُ مِنَ الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ كَامِلًا فِي القدرة، فلا يكون قديرا والله أعلم.

[[سورة الملك (٦٧) : آية ٢]]

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢)

قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ فِيهِ مسائل:

المسألة الْأُولَى: قَالُوا: الْحَيَاةُ هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي يَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِهَا بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ مُضَادَّةٌ لِلْحَيَاةِ وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْعَدَمُ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ، وَرَوَى الْكَلْبِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَوْتَ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ لَا يَمُرُّ بِشَيْءٍ، وَلَا يَجِدُ رَائِحَتَهُ شَيْءٌ إِلَّا مَاتَ وَخَلَقَ الْحَيَاةَ/ فِي صُورَةِ فَارِسٍ يَلْقَاهُ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَتَهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقُولًا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّصْوِيرِ، وَإِلَّا فَالتَّحْقِيقُ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَوْتِ عَلَى ذِكْرِ الْحَيَاةِ مَعَ أَنَّ الْحَيَاةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَوْتِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا:

قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْمَوْتِ نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً وَالْحَيَاةُ نَفْخُ الرُّوحِ وَثَانِيهَا: رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُرِيدُ الْمَوْتَ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةَ فِي الْآخِرَةِ دَارِ الْحَيَوَانِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ

رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ وَيُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادَى يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ بِلَا مَوْتٍ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ بِلَا مَوْتٍ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحٍ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنٍ»

وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَوْتَ عَرَضٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ كَالسُّكُونِ وَالْحَرَكَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ كَبْشًا بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمْثِيلُ لِيُعْلَمَ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَدِ انْقَضَى أَمْرُ الْمَوْتِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ أَيَّامَ الْمَوْتِ هِيَ أَيَّامُ الدُّنْيَا وَهِيَ مُنْقَضِيَةٌ، وَأَمَّا أَيَّامُ الْآخِرَةِ فَهِيَ أَيَّامُ الْحَيَاةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فَلَمَّا كَانَتْ أَيَّامُ الْمَوْتِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى أَيَّامِ الْحَيَاةِ لَا جَرَمَ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ الْمَوْتِ عَلَى ذِكْرِ الْحَيَاةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>