إِذَا اعْتَرَفْتَ بِإِسَاءَتِكَ وَعَجْزِكَ فَأَنَا أَصِفُكَ بِالْإِحْسَانِ وَأَجْعَلُكَ حَبِيبًا لِنَفْسِي، حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى حَضْرَةِ اللَّهِ إِلَّا بِإِظْهَارِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْعَجْزِ وَأَيْضًا إِنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا الْإِقْدَامَ عَلَى الْجِهَادِ طَلَبُوا تَثْبِيتَ أَقْدَامِهِمْ فِي دِينِهِ وَنُصْرَتَهُمْ عَلَى الْعَدُوِّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَمَّاهُمْ بِالْمُحْسِنِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الْحَسَنِ، إِلَّا إِذَا أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ/ الْحَسَنَ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَنِ: ٦٠] وَقَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: ٢٦] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُعْطِي الْفِعْلَ الْحَسَنَ لِلْعَبْدِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُثِيبُهُ عَلَيْهِ لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وبإعانة الله.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا أَرْجَفُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ، وَدَعَا الْمُنَافِقُونَ بَعْضَ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْكُفْرِ، مَنَعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى كَلَامِ أولئك المنافقين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُرَادُ أَبُو سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ كَبِيرَ الْقَوْمِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ أَبُو سُفْيَانَ لِأَنَّهُ كَانَ شَجَرَةَ الْفِتَنِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَتْبَاعُهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَلْقَوُا الشُّبُهَاتِ فِي قُلُوبِ الضَّعَفَةِ وَقَالُوا لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ رَسُولَ اللَّهِ مَا وَقَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ كَسَائِرِ النَّاسِ، يوماً له ويوماً عَلَيْهِ، فَارْجِعُوا إِلَى دِينِكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الْيَهُودُ لِأَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَكَانُوا يُلْقُونَ الشُّبْهَةَ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ وُقُوعِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَخُصُوصُ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى طَاعَتِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّخْصِيصِ فَقِيلَ: إِنْ تُطِيعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوكُمْ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ تَرْكِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: إِنْ تُطِيعُوهُمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَكُمْ مِنَ الضَّلَالِ، وَقِيلَ فِي الْمَشُورَةِ، وَقِيلَ فِي تَرْكِ الْمُحَارَبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمران: ١٥٦] .
ثُمَّ قَالَ: يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ يَعْنِي يَرُدُّوكُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْكُفْرِ كُفْرٌ.
ثُمَّ قَالَ: فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا كَانَ عَامًّا وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ خُسْرَانُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا خُسْرَانُ الدُّنْيَا فَلِأَنَّ أَشَقَّ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْعُقَلَاءِ فِي الدُّنْيَا الِانْقِيَادُ لِلْعَدُوِّ وَالتَّذَلُّلُ لَهُ وَإِظْهَارُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا خُسْرَانُ الْآخِرَةِ فَالْحِرْمَانُ عَنِ الثَّوَابِ الْمُؤَبَّدِ وَالْوُقُوعُ فِي الْعِقَابِ الْمُخَلَّدِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ إِنَّمَا تُطِيعُونَ الكفار لينصروكم