بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْكِتَابُ مَكْتُوبًا فِي الْأَلْوَاحِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَبِأَنْ يَكُونَ نَازِلًا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا، بَلْ لَوْ قِيلَ: إِنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا أَقْرَبُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ الْكِتَابَ إِذَا نَزَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَثُرَتِ التَّكَالِيفُ وَتَوَجَّهَتْ بِأَسْرِهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ قَبُولُهَا، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَصَرَّ قَوْمُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّمَرُّدِ وَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ التَّكَالِيفَ، أَمَّا إِذَا نَزَلَ الْكِتَابُ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَلْ يُنْزِلُ التَّكَالِيفَ شَيْئًا فَشَيْئًا وَجُزْءًا فَجُزْءًا، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ مِنَ الْقَوْمِ وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ هُوَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ سَوَاءٌ نَزَلَ الْكِتَابُ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَكَانَ اقْتِرَاحُ الْيَهُودِ فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ دُفْعَةً وَاحِدَةً اقْتِرَاحًا فَاسِدًا. وَهَذَا أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً يَعْنِي هَذَا الَّذِي يَطْلُبُونَهُ مِنَ الرَّسُولِ أَمْرٌ هَيِّنٌ فِي الْقُدْرَةِ، وَلَكِنَّكُمْ طَلَبْتُمُوهُ عَلَى سَبِيلِ اللَّجَاجِ وَهُوَ تَعَالَى عَزِيزٌ، وَعِزَّتُهُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُجَابَ الْمُتَعَنِّتُ إِلَى مَطْلُوبِهِ فَكَذَلِكَ حِكْمَتُهُ تَقْتَضِي هَذَا الِامْتِنَاعَ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَبَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى لَجَاجِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا التَّشْرِيفَ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَوْمُهُ بَقُوا مَعَهُ عَلَى الْمُكَابَرَةِ وَالْإِصْرَارِ وَاللَّجَاجِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالسَّمْعِ قَالُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبْلَ الْبِعْثَةِ يَكُونُ لِلنَّاسِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: ١٥] وَقَوْلُهُ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: ١٣٤] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَحْتَجُّ عَلَى الرَّبِّ، وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُمْ عَلَى اللَّه حُجَّةً قَبْلَ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّه حُجَّةٌ أَيْ مَا يُشْبِهُ الْحُجَّةَ فِيمَا بَيْنَكُمْ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ عَدَمَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِذَا كَانَ يَصْلُحُ عُذْرًا فَبِأَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْمُكْنَةِ وَالْقُدْرَةِ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ عُذْرًا كَانَ أولى، وجوابه المعارضة بالعلم واللَّه أعلم.
[[سورة النساء (٤) : آية ١٦٦]]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ] وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ لكِنِ لَا يُبْتَدَأُ بِهِ لِأَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا سَبَقَ، وَفِي ذَلِكَ الْمُسْتَدْرَكِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَسْرِهَا جَوَابٌ عَنْ قوله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النِّسَاءِ: ١٥٣] وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ كِتَابًا نَازِلًا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ وَإِنْ شَهِدُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ لَكِنَّ اللَّه يَشْهَدُ بِأَنَّهُ نَازِلٌ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute