للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دعوى النبوة ثبت قوله: أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الثَّالِثُ: أَنَّ ذِكْرَ قَوْلِهِ: وَأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ جَارٍ مَجْرَى التَّهْدِيدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا ثَبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ كَوْنُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَادِقًا فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، فَكُونُوا خَائِفِينَ مِنْ قَهْرِهِ وَعَذَابِهِ وَاتْرُكُوا الْإِصْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ وَاقْبَلُوا الْإِسْلَامَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ ذِكْرِ آيَةِ التَّحَدِّي: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٤] .

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبَ فِي زِيَادَةِ الْإِخْلَاصِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ كَانَ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبَ فِي أصل الإسلام.

[سورة هود (١١) : الآيات ١٥ الى ١٦]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)

اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُنَازِعُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، فَكَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا مُبْطِلٌ وَنَحْنُ مُحِقُّونَ، وَإِنَّمَا نُبَالِغُ فِي مُنَازَعَتِهِ لِتَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَكَانُوا كَاذِبِينَ فِيهِ، بَلْ كَانَ غَرَضُهُمْ مَحْضَ الْحَسَدِ وَالِاسْتِنْكَافِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الْإِسْرَاءِ: ١٨] وَقَوْلُهُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: ٢٠] وفيه الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْكُفَّارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا يَنْدَرِجُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالصِّدِّيقُ وَالزِّنْدِيقُ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُرِيدُ التَّمَتُّعَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَالِانْتِفَاعَ بِخَيْرَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، إِلَّا أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَامِّ الْخَاصُّ وَهُوَ الْكَافِرُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكُفَّارِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَقَطْ، أَيْ تَكُونُ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَلَمْ يَكُنْ طَالِبًا لِسَعَادَاتِ الْآخِرَةِ، كَانَ حُكْمُهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُمْ مُنْكِرُو الْبَعْثِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْآخِرَةَ وَلَا يَرْغَبُونَ إِلَّا فِي سَعَادَاتِ الدُّنْيَا، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ بِغَزْوِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْغَنَائِمَ مِنْ دُونِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالْآخِرَةِ وَثَوَابِهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَنَسٍ.

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي أَنَّ الْمُرَادَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، وَعَمَلُ الْخَيْرِ قِسْمَانِ: الْعِبَادَاتُ، وَإِيصَالُ الْمَنْفَعَةِ إِلَى الْحَيَوَانِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي الْبِرُّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَالصَّدَقَةُ وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ وَتَسْوِيَةُ الطُّرُقِ وَالسَّعْيُ فِي دَفْعِ الشُّرُورِ وَإِجْرَاءُ الْأَنْهَارِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِذَا أَتَى بِهَا الْكَافِرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>