وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ جُمْلَةُ الْأَرْضِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ جُمْلَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ قَدْ مَلَكَ الْأَرْضَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأرض هاهنا اسم الجنس. وقوله: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ قيل المراد من كَلِمَتُ رَبِّكَ قَوْلُهُ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي/ الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: مَا كانُوا يَحْذَرُونَ [الْقَصَصِ: ٦] وَالْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ صِفَةٌ لِلْكَلِمَةِ وَمَعْنَى تَمَّتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَضَتْ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمَرَّتْ مِنْ قَوْلِهِمْ تَمَّ عَلَيْكَ الْأَمْرُ إِذَا مَضَى عَلَيْكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَمَامِ الْكَلِمَةِ الْحُسْنَى إِنْجَازُ الْوَعْدِ الَّذِي تَقَدَّمَ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا كَانَ الْإِنْجَازُ تَمَامًا لِلْكَلَامِ لِأَنَّ الْوَعْدَ بِالشَّيْءِ يَبْقَى كَالشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ فَإِذَا حَصَلَ الْمَوْعُودُ بِهِ فَقَدْ تَمَّ لَكَ الْوَعْدُ وَكَمُلَ وَقَوْلُهُ: بِما صَبَرُوا أَيْ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ التَّمَامُ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ وَحَسْبُكَ بِهِ حَاثًّا عَلَى الصَّبْرِ وَدَالًّا عَلَى أَنَّ مَنْ قَابَلَ الْبَلَاءَ بِالْجَزَعِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَمَنْ قَابَلَهُ بِالصَّبْرِ وَانْتِظَارِ النَّصْرِ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ الْفَرَجَ وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى وَنَظِيرُهُ مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النَّجْمِ: ١٨] وَقَوْلُهُ: وَدَمَّرْنا قَالَ اللَّيْثُ: الدَّمَارُ الْهَلَاكُ التَّامُّ. يُقَالُ: دُمِّرَ الْقَوْمُ يُدَمَّرُونَ دَمَارًا أَيْ هَلَكُوا وَقَوْلُهُ: مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ الصَّانِعَ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ قَالَ الزَّجَّاجُ:
يُقَالُ عَرَشَ يَعْرِشُ وَيَعْرُشُ إِذَا بَنَى قِيلَ: وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الْأَنْعَامِ: ١٤١] وَقِيلَ: وَما كانُوا يَعْرِشُونَ يَرْفَعُونَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْمُشَيَّدَةِ فِي السَّمَاءِ كَصَرْحِ هَامَانَ وَفِرْعَوْنَ. وَقُرِئَ يَعْرِشُونَ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ وَذَكَرَ الْيَزِيدِيُّ أَنَّ الْكَسْرَ أَفْصَحُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قَرَأَ بَعْضُ النَّاسِ يَغْرِسُونَ مِنْ غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَمَا أَحْسَبُهُ إِلَّا تَصْحِيفًا مِنْهُ وَهَذَا آخَرُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قِصَّةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٨ الى ١٣٩]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنْوَاعَ نِعَمِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ أَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالنِّعْمَةِ الْعُظْمَى وَهِيَ أَنْ جَاوَزَ بِهِمُ الْبَحْرَ مَعَ السَّلَامَةِ: وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي سَائِرِ السُّوَرِ كَيْفَ سَيَّرَهُمْ فِي الْبَحْرِ مَعَ السَّلَامَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ فَلَقَ الْبَحْرَ عِنْدَ ضَرْبِ مُوسَى الْبَحْرَ بِالْعَصَا وَجَعْلَهُ يَبَسًا بَيَّنَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا شَاهَدُوا قَوْمًا يَعْكُفُونَ عَلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ جَهِلُوا وَارْتَدُّوا وَقَالُوا: / لِمُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا شَاهَدُوا الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةَ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ: ثُمَّ شَاهَدُوا أَنَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ وَخَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْوَاعِ السَّلَامَةِ وَالْكَرَامَةِ ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ وَالْمَقَامَاتِ يَذْكُرُونَ هَذَا الْكَلَامَ الْفَاسِدَ الْبَاطِلَ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْجَهْلِ وَغَايَةِ الْخِلَافِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ يُقَالُ: جَاوَزَ الْوَادِيَ. إِذَا قَطَعَهُ وَخَلَفَهُ وَرَاءَهُ وَجَاوَزَ بِغَيْرِهِ عَبَرَ بِهِ وَقُرِئَ جَوَّزْنَا بِمَعْنَى: أَجَزْنَا. يُقَالُ: أَجَازَ الْمَكَانَ وَجَوَّزَهُ بِمَعْنَى: جَازَهُ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: يُوَاظِبُونَ عَلَيْهَا وَيُلَازِمُونَهَا. يُقَالُ: لِكُلِّ مَنْ لَزِمَ شَيْئًا وَوَاظَبَ عَلَيْهِ عَكَفَ يَعْكِفُ وَيَعْكُفُ وَمِنْ هَذَا قِيلَ لملازم المسجد متعكف. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ مِنْ لَخْمٍ وكانوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute