للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نُصْرَةِ الدِّينِ لَا يُبَالُونَ بِلَوْمَةِ اللَّائِمِينَ، وَاللَّوْمَةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ اللَّوْمِ، وَالتَّنْكِيرُ فِيهَا وَفِي اللائم مبالغة، كأنه قيل: لا يخافون شيئا قَطُّ مِنْ لَوْمِ أَحَدٍ مِنَ اللَّائِمِينَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فَقَوْلُهُ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ وَصْفِ الْقَوْمِ بِالْمَحَبَّةِ وَالذِّلَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَانْتِفَاءِ خَوْفِ اللَّوْمَةِ الْوَاحِدَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أن كل ذلك بفضله إحسانه، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ طَاعَاتِ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَ اللَّفْظَ عَلَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ فِعْلَ.

الْأَلْطَافِ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، فَلَا بُدَّ فِي التَّخْصِيصِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فَالْوَاسِعُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَالْعَلِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ سَيَجِيءُ بِأَقْوَامٍ هَذَا شَأْنُهُمْ وَصِفَتُهُمْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَامِلُ الْقُدْرَةِ فَلَا يَعْجِزُ عَنْ هَذَا الْمَوْعُودِ، كَامِلُ الْعِلْمِ فَيَمْتَنِعُ دخول الخلف في أخباره ومواعيده.

[[سورة المائدة (٥) : آية ٥٥]]

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥)

وَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمُوَالَاةِ مَنْ يَجِبُ مُوَالَاتُهُ وَقَالَ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَيِ الْمُؤْمِنُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ لَمَّا تَبَرَّأَ مِنَ الْيَهُودِ وَقَالَ: أَنَا بَرِيءٌ إِلَى اللَّه مِنْ حِلْفِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَأَتَوَلَّى اللَّه وَرَسُولَهُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ.

وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَلَامٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ قَوْمَنَا قَدْ هَجَرُونَا وَأَقْسَمُوا أَنْ لَا يُجَالِسُونَا، وَلَا نَسْتَطِيعُ مُجَالَسَةَ أَصْحَابِكَ لِبُعْدِ الْمَنَازِلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ: رَضِينَا باللَّه وَرَسُولِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءَ،

فَعَلَى هَذَا: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: ٧١] وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ صِفَةٌ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ إِلَّا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُدَاوِمِينَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، قَالَ تَعَالَى: فِي صِفَةِ صَلَاتِهِمْ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [التوبة: ٥٤] وقال: يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا

[النِّسَاءِ: ١٤٢] وَقَالَ فِي صِفَةِ زَكَاتِهِمْ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الْأَحْزَابِ: ١٩] وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهُمْ راكِعُونَ فَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّكُوعِ الْخُضُوعُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَهُمْ مُنْقَادُونَ خَاضِعُونَ لِجَمِيعِ أَوَامِرِ اللَّه وَنَوَاهِيهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: مِنْ شَأْنِهِمْ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَخُصَّ الرُّكُوعُ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [الْبَقَرَةِ: ٤٣] وَالثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُخْتَلِفُونَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، مِنْهُمْ مَنْ قَدْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَفَعَ الْمَالَ إِلَى الْفَقِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ بَعْدُ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ رَاكِعًا، فَلَمَّا كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى كُلَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: رَوَى عِكْرِمَةُ أن هذه

<<  <  ج: ص:  >  >>