عَنِ الْمَوْتِ يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ: زَارَ قَبْرَهُ وَزَارَ رَمْسَهُ، قَالَ جَرِيرٌ لِلْأَخْطَلِ:
زَارَ الْقُبُورَ أَبُو مَالِكٍ ... فَأَصْبَحَ أَلْأَمَ زُوَّارِهَا
أَيْ مَاتَ فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَلْهَاكُمْ حِرْصُكُمْ عَلَى تَكْثِيرِ أَمْوَالِكُمْ عَنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ حَتَّى أَتَاكُمُ الْمَوْتُ، وَأَنْتُمْ عَلَى ذَلِكَ، يُقَالُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الزَّائِرَ هُوَ الَّذِي يَزُورُ سَاعَةً ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَالْمَيِّتُ يَبْقَى فِي قَبْرِهِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ زَارَ الْقَبْرَ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ قَدْ يَمْكُثُ الزَّائِرُ، لَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الرَّحِيلِ، وَكَذَا أَهْلُ الْقُبُورِ يَرْحَلُونَ عَنْهَا إِلَى مَكَانِ الْحِسَابِ وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ كَانَ مُشْرِفًا عَلَى الْمَوْتِ بِسَبَبِ الْكِبَرِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ وَثَانِيهَا:
أَنَّ الْخَبَرَ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُمْ وَعْظًا لَهُمْ، فَهُوَ كَالْخَبَرِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ [آل عمران: ٢١] وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِهَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَعْيِيرًا لِلْكُفَّارِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَدْ تَقَدَّمَتْ مِنْهُمْ زِيَارَةُ الْقُبُورِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَلْهَاكُمُ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَطَلَبُ تَكْثِيرِهِ حَتَّى مَنَعْتُمُ الْحُقُوقَ الْمَالِيَّةَ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ، ثُمَّ تَقُولُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: أَوْصَيْتُ لِأَجْلِ الزَّكَاةِ بِكَذَا، وَلِأَجْلِ الْحَجِّ بِكَذَا.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ فَلَا تَلْتَفِتُونَ إِلَى الدِّينِ، بَلْ قُلُوبُكُمْ كَأَنَّهَا أَحْجَارٌ لَا تَنْكَسِرُ الْبَتَّةَ إِلَّا إِذَا زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حَالُكُمْ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَظُّكُمْ مِنْ دِينِكُمْ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْقَلِيلَ مِنَ الِانْكِسَارِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الملك: ٢٣] أَيْ لَا أَقْنَعُ مِنْكُمْ بِهَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ الشُّكْرِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنْ كَذَا وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ الْوَهْمُ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَوْضِعُ، أَيْ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ، أَوْ نَقُولُ: إِنْ نَظَرْنَا إِلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فَالْمَعْنَى:
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي أَمْرِ الْقَارِعَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا قَبْلَ الْمَوْتِ، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى الْأَسْفَلِ فَالْمَعْنَى أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ فَنَسِيتُمُ الْقَبْرَ حَتَّى زرتموه. أما قوله تعالى:
[سورة التكاثر (١٠٢) : الآيات ٣ الى ٤]
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)
فَهُوَ يَتَّصِلُ بِمَا قَبْلَهُ وَبِمَا بَعْدَهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَعَلَى وَجْهِ الرَّدِّ وَالتَّكْذِيبِ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ السَّعَادَةَ الحقيقية بكثرة العدد والأموال وَالْأَوْلَادِ، وَأَمَّا اتِّصَالُهُ بِمَا بَعْدَهُ، فَعَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ أَيْ حَقًّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ لَكِنْ حِينَ يَصِيرُ الْفَاسِقُ تَائِبًا، وَالْكَافِرُ مُسْلِمًا، وَالْحَرِيصُ زَاهِدًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ: لَا يَغُرَّنَّكَ كَثْرَةُ مَنْ ترى حولك فإنك تموت وحدك، وتبعث وَحْدَكَ وَتُحَاسَبُ وَحْدَكَ، وَتَقْرِيرُهُ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ [عَبَسَ: ٣٤] ويَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: ٨٠] ولَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى إِلَى أَنْ قَالَ: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ [الْأَنْعَامِ: ٩٤] وَهَذَا يَمْنَعُكَ عَنِ التَّكَاثُرِ، وَذَكَرُوا فِي التَّكْرِيرِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَنَّهُ وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ كَمَا تَقُولُ: لِلْمَنْصُوحِ أَقُولُ لَكَ، ثُمَّ أَقُولُ لَكَ لَا تَفْعَلْ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَوَّلَ عند الموت حين يُقَالُ لَهُ: لَا بُشْرَى وَالثَّانِي فِي سُؤَالِ القبر: