للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دَارِ كَرَامَتِهِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِأَوْلِيَائِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ ... إِنَّمَا الْمَيِّتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ

فَهُمْ يَطْلُبُونَ الْمَوْتَ لَا مَحَالَةَ إِذَا كَانَتِ الْحَالَةُ هَذِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَيْ بِسَبَبِ مَا قَدَّمُوا مِنَ الْكُفْرِ وَتَحْرِيفِ الْآيَاتِ، وَذُكِرَ مَرَّةً بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ وَلَنْ/ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً وَمَرَّةً بِدُونِ لَفْظِ التَّأْكِيدِ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ وَقَوْلُهُ: أَبَداً ... وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أَيْ بِظُلْمِهِمْ مِنْ تَحْرِيفِ الآيات وعنادهم لها، ومكابرتهم إياها.

ثم قال تعالى:

[[سورة الجمعة (٦٢) : آية ٨]]

قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)

يَعْنِي أَنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ مِنْ تَحْرِيفِ الْآيَاتِ وَغَيْرِهِ مُلَاقِيكُمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَنْفَعُكُمُ الْفِرَارُ ثُمَّ تَرُدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ يَعْنِي مَا أَشْهَدْتُمُ الْخَلْقَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَعَالِمٌ بِمَا غَيَّبْتُمْ عَنِ الْخَلْقِ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَسْرَرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ تَكْذِيبِكُمْ رِسَالَتَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِمَّا عِيَانًا مَقْرُونًا بِلِقَائِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ بِالْجَزَاءِ إِنْ كَانَ خَيْرًا فَخَيْرٌ. وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَشَرٌّ، فَقَوْلُهُ: إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى السَّعْيِ فِيمَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هُوَ الْوَعِيدُ الْبَلِيغُ وَالتَّهْدِيدُ الشَّدِيدُ. ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَدْخَلَ الْفَاءَ لِمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُلَاقِيكُمْ مِنْ غَيْرِ فَإِنَّهُ.

الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْمَوْتُ مُلَاقِيهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَرُّوا أَوْ لَمْ يَفِرُّوا، فَمَا مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ؟ قِيلَ: إِنَّ هَذَا عَلَى جِهَةِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إِذْ ظَنُّوا أَنَّ الْفِرَارَ يُنْجِيهِمْ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَفْصَحَ عَنْهُ بِالشَّرْطِ الْحَقِيقِيِّ فِي قَوْلِهِ:

وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا تَنَالُهُ «١» ... وَلَوْ نَالَ أسباب السماء بسلم

[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ٩ الى ١٠]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠)

وَجْهُ التَّعَلُّقِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الَّذِينَ هَادُوا يَفِرُّونَ مِنَ الْمَوْتِ لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا يَبِيعُونَ وَيَشْرُونَ لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا كَذَلِكَ، فَنَبَّهَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أَيْ إِلَى مَا ينفعكم في


(١) الرواية المحفوظة: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>