للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَاصَرٍ يَتَوَلَّاهُ مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الْإِضْلَالِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي أَنَّ الْهِدَايَةَ لَيْسَتْ فِي مَقْدُورِ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عَنِ الْجَنَّةِ فَمَا لَهُ مَنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ يَنْصُرُهُ وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَقْيِيدَ الْإِضْلَالِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ خِلَافُ الدَّلِيلِ، وَأَيْضًا فَاللَّهُ تَعَالَى مَا أَضَلَّهُ عَنِ الْجَنَّةِ عَلَى قَوْلِكُمْ بَلْ هُوَ أَضَلَّ نَفْسَهُ عَنِ الْجَنَّةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا لِعِظَمِ مَا يُشَاهِدُونَ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُمْ عِنْدَ عَرْضِ النَّارِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ خَاشِعِينَ حَقِيرِينَ مُهَانِينَ بِسَبَبِ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الذُّلِّ، ثُمَّ قَالَ:

يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أَيْ يَبْتَدِئُ نَظَرُهُمْ مِنْ تَحْرِيكٍ لِأَجْفَانِهِمْ ضَعِيفٍ خَفِيٍّ بِمُسَارَقَةٍ كَمَا تَرَى الَّذِي يَتَيَقَّنُ أَنْ يُقْتَلَ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى السَّيْفِ كَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْتَحَ أَجْفَانَهُ عَلَيْهِ وَيَمْلَأَ عَيْنَيْهِ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُ فِي نَظَرِهِ إِلَى الْمَحْبُوبَاتِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ إِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا فَكَيْفَ قال هاهنا إِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ؟ قُلْنَا لَعَلَّهُمْ يَكُونُونَ فِي الِابْتِدَاءِ هَكَذَا، ثُمَّ يُجْعَلُونَ عُمْيًا أَوْ لَعَلَّ هَذَا فِي قَوْمٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْمٍ آخَرِينَ، وَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ حَكَى مَا يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ فِيهِمْ فَقَالَ: وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يَوْمَ الْقِيامَةِ إما أن يتعلق بخسروا أَوْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ وَاقِعًا فِي الدُّنْيَا، وإما أن يتعلق بقال أَيْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا رَأَوْهُمْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ.

ثُمَّ قَالَ: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ أَيْ دَائِمٍ قَالَ الْقَاضِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ يَدُومُ عَذَابُهُمَا وَالْجَوَابُ: أَنَّ لَفْظَ الظَّالِمِ الْمُطْلَقِ فِي الْقُرْآنِ مَخْصُوصٌ بِالْكَافِرِ قَالَ تَعَالَى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: ٢٥٤] وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا لِأَجْلِ أَنْ تَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَتَوْا بِتِلْكَ الشَّفَاعَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكُفَّارِ ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُضِلَّ وَالْهَادِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا هُوَ قولنا ومذهبنا والله أعلم.

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَقَالَ: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ وَقَوْلُهُ مِنَ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِلَةً لِقَوْلِهِ لَا مَرَدَّ لَهُ يَعْنِي لا يرده الله بعد ما

<<  <  ج: ص:  >  >>