للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا غَافِلِينَ عَنِ الْهَلَاكِ فَأَنْذَرَهُمْ بِهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَكَانُوا غَافِلِينَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَأَخْبَرَهُمْ بِهِمَا.

الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ.

فِي مَعْنَاهُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: هُوَ مَا قَالَهُ تَعَالَى فِي حَقِّ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ [الْفَجْرِ: ٩] مِنْ قُوَّتِهِمْ خَرَقُوا الطُّرُقَ وَنَقَبُوهَا، وَقَطَعُوا الصُّخُورَ وَثَقَبُوهَا ثَانِيهَا: نَقَبُوا، أَيْ سَارُوا فِي الْأَسْفَارِ وَلَمْ يَجِدُوا مَلْجَأً وَمَهْرَبًا، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَهْلَ مَكَّةَ، أَيْ هُمْ سَارُوا فِي الْأَسْفَارِ، وَرَأَوْا مَا فِيهَا مِنَ الْآثَارِ ثَالِثُهَا:

فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أَيْ صَارُوا نُقَبَاءَ فِي الْأَرْضِ أَرَادَ مَا أَفَادَهُمْ/ بَطْشُهُمْ وَقُوَّتُهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْفَاءُ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ حِينَئِذٍ مُفِيدَةً تَرَتُّبَ الْأَمْرِ عَلَى مُقْتَضَاهُ، تَقُولُ كَانَ زَيْدٌ أَقْوَى مِنْ عَمْرٍو فَغَلَبَهُ، وكان عمرو مريضا فغلبه زيد، كذلك هاهنا قَالَ تَعَالَى: هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَصَارُوا نُقَبَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَقُرِئَ فَنَقَّبُوا بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ التَّنْقِيبَ الْبَحْثُ، وَهُوَ مِنْ نَقُبَ بِمَعْنَى صَارَ نَقِيبًا.

الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ مِنْ مَحِيصٍ.

يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً الْأَوَّلُ: عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَفْعُولٌ، أَيْ بَحَثُوا عَنِ الْمَحِيصِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ الثَّانِي: عَلَى الْقِرَاءَاتِ جَمِيعًا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَحِيصٌ الثَّالِثُ: هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِقَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ أهلكوا مع قوة بطشهم فهل مِنْ مَحِيصٍ لَكُمْ تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ وَالْمَحِيصُ كَالْمَحِيدِ غَيْرَ أَنْ الْمَحِيصَ مَعْدَلٌ وَمَهْرَبٌ عَنِ الشِّدَّةِ، يَدُلُّكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ وَقَعُوا فِي حَيْصَ بَيْصَ أَيْ فِي شِدَّةٍ وَضِيقٍ، وَالْمَحِيدُ مَعْدَلٌ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ بِالِاخْتِيَارِ يُقَالُ حَادَ عَنِ الطَّرِيقِ نَظَرًا، وَلَا يُقَالُ حَاصَ عَنِ الْأَمْرِ نَظَرًا.

[[سورة ق (٥٠) : آية ٣٧]]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ.

الْإِشَارَةُ إِلَى الْإِهْلَاكِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَالَهُ مِنْ إِزْلَافِ الْجَنَّةِ وَمَلْءِ جَهَنَّمَ وَغَيْرِهِمَا، وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرٍ هُوَ التَّذَكُّرُ وَالتَّذْكِرَةُ وَهِيَ فِي نَفْسِهَا مَصْدَرُ ذَكَرَهُ يَذْكُرُهُ ذِكْرًا وَذِكْرَى وَقَوْلَهُ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ قِيلَ الْمُرَادُ قَلْبٌ مَوْصُوفٌ بِالْوَعْيِ، أَيْ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ وَاعٍ يُقَالُ لِفُلَانٍ مَالٌ أَيْ كَثِيرٌ فَالتَّنْكِيرُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي الْكَمَالِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هُوَ لِبَيَانِ وُضُوحِ الْأَمْرِ بَعْدَ الذِّكْرِ وَأَنْ لَا خَفَاءَ فِيهِ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ مَا وَلَوْ كَانَ غَيْرَ كَامِلٍ، كَمَا يُقَالُ أَعْطِهِ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ دِرْهَمًا، وَنَقُولُ الْجَنَّةُ لِمَنْ عَمِلَ خَيْرًا وَلَوْ حَسَنَةً، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ قَلْبٌ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ لَا يَتَذَكَّرُ لَا قَلْبَ لَهُ أَصْلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [الْبَقَرَةِ: ١٨] حَيْثُ لَمْ تَكُنْ آذَانُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ وَأَعْيُنُهُمْ مُفِيدَةً لِمَا يُطْلَبُ مِنْهَا كَذَلِكَ مَنْ لَا يَتَذَكَّرُ كَأَنَّهُ لَا قَلْبَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الْأَعْرَافِ: ١٧٩] أَيْ هُمْ كَالْجَمَادِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [الْمُنَافِقُونَ: ٤] أَيْ لَهُمْ صُوَرٌ وَلَيْسَ لَهُمْ قَلْبٌ لِلذِّكْرِ وَلَا لِسَانٌ لِلشُّكْرِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ أَيِ اسْتَمَعَ وَإِلْقَاءُ السَّمْعِ كِنَايَةٌ فِي الِاسْتِمَاعِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَسْمَعُ فَكَأَنَّهُ حَفِظَ سَمْعَهُ وَأَمْسَكَهُ فَإِذَا أَرْسَلَهُ حَصَلَ الِاسْتِمَاعُ، فَإِنْ قِيلَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ التَّنْكِيرُ فِي الْقَلْبِ لِلتَّكْثِيرِ يَظْهَرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>