للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمَعْنَى ذَلِكَ الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَالطَّرِيقُ الَّذِي شَرَعْنَاهُ أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا، وَأَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ لَا عَلَى وَجْهِهَا، وَلَكِنَّهُمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لِخَوْفِهِمْ مِنْ أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ عَلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ، فَيَظْهَرُ كَذِبُهُمْ وَيَفْتَضِحُونَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وَالْمَعْنَى اتَّقُوا اللَّه أَنْ تَخُونُوا فِي الْأَمَانَاتِ وَاسْمَعُوا مَوَاعِظَ اللَّه أَيِ اعْمَلُوا بِهَا وَأَطِيعُوا اللَّه فِيهَا واللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، وَهُوَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِمَنْ خَالَفَ حُكْمَ اللَّه وَأَوَامِرَهُ فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ إِعْرَابًا وَنَظْمًا وَحُكْمًا، وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي «الْبَسِيطِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ أَعْضَلُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَالْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ عِنْدَ أكثر الفقهاء واللَّه أعلم بأسرار كلامه.

[[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٩]]

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩)

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ اعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ اللَّه تَعَالَى جَارِيَةٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ أَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ، أَتْبَعَهَا إِمَّا بِالْإِلَهِيَّاتِ، وَإِمَّا بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالشَّرَائِعِ فَلَا جَرَمَ لَمَّا ذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنْوَاعًا/ كَثِيرَةً مِنَ الشَّرَائِعِ أَتْبَعَهَا بِوَصْفِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَ عِيسَى. أَمَّا وَصْفُ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:

الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ تَقْدِيرُهُ: وَاتَّقُوا اللَّه يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّه الرُّسُلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الظَّرْفِ لِهَذَا الْفِعْلِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالتَّقْوَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَكِنْ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ. الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: واللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّه الرُّسُلَ، أَيْ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [النِّسَاءِ: ١٦٨، ١٦٩] .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا قبلها، وعلى هذا التقدير ففيه أيضا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: اذْكُرْ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّه الرُّسُلَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّه الرُّسُلَ كَانَ كَيْتُ وَكَيْتُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ مَاذَا مُنْتَصِبٌ بأجبتم انْتِصَابَ مَصْدَرِهِ عَلَى مَعْنَى أَيَّ إِجَابَةٍ أُجِبْتُمْ إِجَابَةُ إِنْكَارٍ أَمْ إِجَابَةُ إِقْرَارٍ. وَلَوْ أُرِيدَ الْجَوَابُ لَقِيلَ بِمَاذَا أُجِبْتُمْ. فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا السُّؤَالِ؟

قُلْنَا: تَوْبِيخُ قَوْمِهِمْ كما أن قوله وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التَّكْوِيرِ: ٨، ٩] الْمَقْصُودُ مِنْهُ توبيخ من فعل ذلك الفعل.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَشْهَدُونَ لِأُمَمِهِمْ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: ٤١] مُشْكِلٌ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>