وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
[الْبَقَرَةِ: ١٤٣] فَإِذَا كَانَتْ أُمَّتُنَا تَشْهَدُ لِسَائِرِ النَّاسِ فَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَى بِأَنْ يَشْهَدُوا لِأُمَمِهِمْ بِذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ لِلْقِيَامَةِ زَلَازِلَ وَأَهْوَالًا بِحَيْثُ/ تَزُولُ الْقُلُوبُ عَنْ مَوَاضِعِهَا عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا. فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْأَهْوَالِ يَنْسَوْنَ أَكْثَرَ الْأُمُورِ، فَهُنَالِكَ يَقُولُونَ لَا عِلْمَ لَنَا، فَإِذَا عَادَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَيْهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَشْهَدُونَ لِلْأُمَمِ. وَهَذَا الْجَوَابُ وَإِنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْأَكَابِرِ فَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الثَّوَابِ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٣] وَقَالَ أَيْضًا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عَبَسَ: ٣٨، ٣٩] بَلْ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْبَقَرَةِ: ٦٢] فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَوْ خَافُوا لَكَانُوا أَقَلَّ مَنْزِلَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ الْبَتَّةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْقِيقِ فَضِيحَتِهِمْ كَمَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ مَا تَقُولُ فِي فُلَانٍ؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الشَّهَادَةِ لِظُهُورِهِ، وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ كُلِّ الْأُمَّةِ وَكُلُّ الْأُمَّةِ مَا كَانُوا كَافِرِينَ حَتَّى تُرِيدَ الرُّسُلُ بِالنَّفْيِ تَبْكِيتَهُمْ وَفَضِيحَتَهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا لِأَنَّكَ تَعْلَمُ مَا أَظْهَرُوا وَمَا أَضْمَرُوا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ إِلَّا مَا أَظْهَرُوا فَعِلْمُكَ فِيهِمْ أَنْفَذُ مِنْ عِلْمِنَا. فَلِهَذَا الْمَعْنَى نَفَوُا الْعِلْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ عِلْمَهُمْ عِنْدَ اللَّه كَلَا عِلْمٍ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا، إِلَّا أَنَّ عَلِمْنَا جَوَابَهُمْ لَنَا وَقْتَ حَيَاتِنَا، وَلَا نَعْلَمُ مَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ وَفَاتِنَا. وَالْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ إِنَّمَا يَحْصُلَانِ عَلَى الْخَاتِمَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا. فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا وَقَوْلُهُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِي وَقْتَ الْكِتَابَةِ، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعِلْمَ غَيْرٌ وَالظَّنَّ غَيْرٌ وَالْحَاصِلُ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ حَالِ الْغَيْرِ إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ لَا الْعِلْمُ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ واللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ لَدَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ فَمَنْ حَكَمْتُ لَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ فَكَأَنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»
أَوْ لَفْظٌ هَذَا مَعْنَاهُ. فَالْأَنْبِيَاءُ قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا الْبَتَّةَ بِأَحْوَالِهِمْ، إِنَّمَا الْحَاصِلُ عِنْدَنَا مِنْ أَحْوَالِهِمْ هُوَ الظَّنُّ، وَالظَّنُّ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الظَّنِّ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا الْتِفَاتَ فِيهَا إِلَى الظَّنِّ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ فِي الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَبَوَاطِنِ الْأُمُورِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا وَلَمْ يَذْكُرُوا الْبَتَّةَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الظَّنِّ لِأَنَّ الظَّنَّ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمٌ لَا يَجْهَلُ، حَكِيمٌ لَا يَسْفَهُ، عَادِلٌ لَا يَظْلِمُ، / عَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يُفِيدُ خَيْرًا، وَلَا يَدْفَعُ شَرًّا فَرَأَوْا أَنَّ الْأَدَبَ فِي السُّكُوتِ، وَفِي تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى عَدْلِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَا يَمُوتُ.