بَيْنَ أَنْ يُقَدِّمُوا الْأُسَارَى فَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ تُقْتَلَ مِنْهُمْ عِدَّتُهُمْ، فَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِقَوْمِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَشَائِرُنَا وَإِخْوَانُنَا نَأْخُذُ الْفِدَاءَ مِنْهُمْ، فَنَتَقَوَّى بِهِ عَلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ، وَنَرْضَى أَنْ يُسْتَشْهَدَ مِنَّا بِعَدَدِهِمْ، فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ رَجُلًا عَدَدُ أُسَارَى أَهْلِ بَدْرٍ،
فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أَيْ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ وَاخْتِيَارِكُمُ الْقَتْلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَاصِلًا بِخَلْقِ اللَّهِ وَلَا تَأْثِيرَ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِيهِ، كَانَ قَوْلُهُ:
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ كَذِبًا، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَوْمَ تَعَجَّبُوا أَنَّ اللَّهَ كَيْفَ يُسَلِّطُ الْكَافِرَ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَزَالَ التَّعَجُّبَ بِأَنْ ذَكَرَ أَنَّكُمْ إِنَّمَا وَقَعْتُمْ فِي هَذَا الْمَكْرُوهِ بِسَبَبِ شُؤْمِ فِعْلِكُمْ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُمْ خَلْقًا لِلَّهِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْجَوَابُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: أَنَّى هَذَا، أَيْ مِنْ أَيْنَ هَذَا فَهَذَا طَلَبٌ لِسَبَبِ الْحُدُوثِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُحْدِثُ لَهَا هُوَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ أَفْعَالِ الْعَبْدِ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ أَيْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِكُمْ لَوْ ثَبَتُّمْ وَصَبَرْتُمْ، كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّخْلِيَةِ إِذَا خالفتم وعصيتم، وأحج أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَالُوا: إِنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ شَيْءٌ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِ، فَلَوْ أَوْجَدَهُ الْعَبْدُ امْتَنَعَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَدَهُ الْعَبْدُ امْتَنَعَ مِنَ اللَّهِ إِيجَادُهُ، لِأَنَّ إِيجَادَ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ/ فَلَمَّا كَانَ كَوْنُ الْعَبْدِ مُوجِدًا لَهُ يُفْضِي إِلَى هَذَا الْمُحَالِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ مُوجِدًا له والله أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٦ الى ١٦٧]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قوله: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران: ١٦٥] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهَا أَصَابَتْهُمْ بِذَنْبِهِمْ وَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا أَصَابَتْهُمْ لِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُ عَنِ الْمُنَافِقِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ الْمُرَادُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَالْجَمْعَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمْعُ الْمُسْلِمِينَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّانِي: جَمْعُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ أَبِي سُفْيَانَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِذْنَ اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّخْلِيَةِ وَتَرْكِ الْمُدَافَعَةِ، اسْتَعَارَ الْإِذْنَ لِتَخْلِيَةِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُمْ لِيَبْتَلِيَهُمْ، لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الشَّيْءِ لَا يَدْفَعُ الْمَأْذُونَ عَنْ مُرَادِهِ، فَلَمَّا كَانَ ترك المدافعة من لوازم الاذن أطلق لفظ الاذن عَلَى تَرْكِ الْمُدَافِعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فَبِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ بِعِلْمِهِ كَقَوْلِهِ: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: ٣] أَيْ إِعْلَامٌ، وَكَقَوْلِهِ: آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ [فُصِّلَتْ: ٤٧] وَقَوْلِهِ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٩] وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى العلم. طعن