للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقَاتَلَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا لِهَذَا الدَّاعِي، وَعَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ هَذَا الدَّاعِي وَقَعَتِ الْمُقَاتَلَةُ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّاعِي، وَوَاجِبٌ عِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِي، وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ تَسْتَنِدُ لَا مَحَالَةَ إِلَى دَاعِيَةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ فِي الْعَبْدِ دَفْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا.

ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْرِيرِ؟.

قُلْنَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِلْكَلَامِ وَتَكْذِيبًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَجْرِ بِهِ قَضَاءٌ وَلَا قَدَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

ثُمَّ قَالَ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فَيُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ/ وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالُوا: لِأَنَّ الْخَصْمَ يُسَاعِدُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا يُرِيدُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ لِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَيْضًا لِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا يُرِيدُ فَلَوْ كَانَ يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُفَّارِ لَفَعَلَ فِيهِمُ الْإِيمَانَ، وَلَكَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَعْمَالِ، وَعَلَى مَسْأَلَةِ إِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُعْتَزِلَةُ يُقَيِّدُونَ الْمُطْلَقَ وَيَقُولُونَ: الْمُرَادُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا يُرِيدُ مِنْ أَفْعَالِ نَفْسِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ تَصِيرُ الْآيَةُ بَيَانًا لِلْوَاضِحَاتِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ فِي وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ قدرته وعلو مرتبته والله أعلم.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٤]]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)

اعْلَمْ أَنَّ أَصْعَبَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْإِنْسَانِ بَذْلُ النَّفْسِ فِي الْقِتَالِ، وَبَذْلُ الْمَالِ فِي الْإِنْفَاقِ فَلَمَّا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ أَعْقَبَهُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ، وَأَيْضًا فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْقِتَالِ فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٤] ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَةِ: ٢٤٥] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَرَّةً ثَانِيَةً أَكَّدَ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ طَالُوتَ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِالْأَمْرِ بالإنفاق في الجهاد، وهو قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا.

إِذَا عَرَفْتَ وَجْهَ النَّظْمِ فَنَقُولُ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَلَالًا بِقَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ فَنَقُولُ:

اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ رِزْقًا بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا مَا كَانَ حَرَامًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِنْفَاقُهُ، وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ حَرَامًا، وَالْأَصْحَابُ قَالُوا: ظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِإِنْفَاقِ كُلِّ مَا كَانَ رِزْقًا إِلَّا أَنَّا نُخَصِّصُ هَذَا الْأَمْرَ بِإِنْفَاقِ كُلِّ مَا كَانَ رِزْقًا حَلَالًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْفِقُوا مُخْتَصٌّ بِالْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ كَالزَّكَاةِ أَمْ هُوَ عَامٌّ/ فِي كُلِّ الْإِنْفَاقَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً، فَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا الْأَمْرُ مُخْتَصٌّ بِالزَّكَاةِ، قَالَ لِأَنَّ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ