تلك المذاهب من العذاب الشديد والعذاب الدَّائِمِ حَصَلَتْ فِيهِ جِهَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعَذَابِ. مِنْهَا عَذَابُ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي تَحَمُّلِ الْعَنَاءِ الشَّدِيدِ وَالْبَلَاءِ الْعَظِيمِ فِي تَحْصِيلِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ إِلَّا الْعَذَابُ وَالْعَنَاءُ، وَمِنْهَا عَذَابُ الْخَجَلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا كَانَ مَحْضَ الْجَهَالَةِ وَصَرِيحَ الضَّلَالَةِ، وَمِنْهَا حُصُولُ الْيَأْسِ الشَّدِيدِ مَعَ الطَّمَعِ الْعَظِيمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يُوجِبُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ وَالْآلَامَ الْعَظِيمَةَ الرُّوحَانِيَّةَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَمَّا بَدَا لَهُ أَنَّهُ فَاتَهُ الْأَمْرُ الَّذِي بِهِ يَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِ الْخَيْرَاتِ، وَحَصَلَ عِنْدَهُ الْأَمْرُ الَّذِي يُوجِبُ حُصُولَ الْمَضَرَّاتِ، فَإِذَنْ بَقِيَ لَهُ رَجَاءٌ فِي التَّدَارُكِ مِنْ بعض الوجوه فههنا يَحُفُّ ذَلِكَ الْأَلَمُ وَيَضْعُفُ ذَلِكَ الْحُزْنُ. أَمَّا إِذَا حَصَلَ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ بِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْتَنِعٌ، وجبر ذلك النقصان متعذر فههنا يَعْظُمُ الْحُزْنُ وَيَقْوَى الْبَلَاءُ جِدًّا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَصْلَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْجَسَدِ قَدْ تَقَطَّعَتْ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْصِيلِهَا مَرَّةً أُخْرَى. وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا بَيَانَ فَوْقَ هَذَا الْبَيَانِ فِي شَرْحِ أحوال هؤلاء الضالين.
[[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٥]]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي التَّوْحِيدِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِتَقْرِيرِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي بَعْضِ تَفَارِيعِ هَذَا الْأَصْلِ، عَادَ هَاهُنَا إِلَى ذِكْرِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ جَمِيعِ الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، وَكُلِّ الْمَطَالِبِ الْحِكْمِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّه بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أَيْ خَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: ذَهَبُوا بِفَالِقٍ مَذْهَبَ فَاطِرٍ، وَأَقُولُ: الْفِطْرُ هُوَ الشَّقُّ، / وَكَذَلِكَ الْفَلْقُ، فَالشَّيْءُ قَبْلَ أَنْ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ كَانَ مَعْدُومًا مَحْضًا وَنَفْيًا صِرْفًا، وَالْعَقْلُ يَتَصَوَّرُ مِنَ الْعَدَمِ ظُلْمَةً مُتَّصِلَةً لَا انْفِرَاجَ فِيهَا وَلَا انْفِلَاقَ وَلَا انْشِقَاقَ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ الْمُبْدِعُ الْمُوجِدُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، فَكَأَنَّهُ بِحَسْبِ التَّخَيُّلِ وَالتَّوَهُّمِ شَقَّ ذَلِكَ الْعَدَمَ وَفَلَقَهُ. وَأَخْرَجَ ذَلِكَ الْمُحْدَثَ مِنْ ذَلِكَ الشَّقِّ. فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَبْعُدُ حَمْلُ الْفَالِقِ عَلَى الْمُوجِدِ وَالْمُحْدِثِ وَالْمُبْدِعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْفَلْقَ هُوَ الشَّقُّ، وَالْحَبَّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ مِثْلَ حَبَّةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَسَائِرِ الْأَنْوَاعِ، وَالنَّوَى هُوَ الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ فِي دَاخِلِ الثَّمَرَةِ مِثْلَ نَوَى الْخَوْخِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِمَا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا وَقَعَتِ الْحَبَّةُ أَوِ النَّوَاةُ فِي الْأَرْضِ الرَّطْبَةِ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ قَدْرٌ مِنَ الْمُدَّةِ أَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَبَّةِ وَالنَّوَاةِ مِنْ أَعْلَاهَا شَقًّا وَمِنْ أَسْفَلِهَا شَقًّا آخَرَ. أَمَّا الشَّقُّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي أَعْلَى الْحَبَّةِ وَالنَّوَاةِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهُ الشَّجَرَةَ الصَّاعِدَةَ إِلَى الْهَوَاءِ، وَأَمَّا الشَّقُّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي أَسْفَلِ تِلْكَ الْحَبَّةِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهُ الشَّجَرَةَ الْهَابِطَةَ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِعُرُوقِ الشَّجَرَةِ، وَتَصِيرُ تِلْكَ الْحَبَّةُ وَالنَّوَاةُ سَبَبًا لِاتِّصَالِ الشَّجَرَةِ الصَّاعِدَةِ فِي الْهَوَاءِ بِالشَّجَرَةِ الْهَابِطَةِ فِي الْأَرْضِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute