للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُجَرَّدُ نَصْبِ الدَّلَائِلِ. قَالُوا: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّا نَصَبْنَا هذه هَذِهِ الدَّلَائِلَ، وَأَظْهَرْنَاهَا لِلْعُقُولِ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ فَمَا نَبَّهَنَا عَلَيْهِ مُنَبِّهٌ أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكْنَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ لِأَسْلَافِنَا، لِأَنَّ نَصْبَ الْأَدِلَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ قَائِمٌ مَعَهُمْ، فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى التَّقْلِيدِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالْآبَاءِ.

ثُمَّ قَالَ: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِثْلَ مَا فَصَّلْنَا وَبَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بَيَّنَّا سَائِرَ الْآيَاتِ لِيَتَدَبَّرُوهَا فَيَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ وَيُعْرِضُوا عَنِ الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقِيلَ: أَيْ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الْأَبْدَانِ، وَالْإِقْرَارَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ مِنْ لَوَازِمِ ذَوَاتِهَا وَحَقَائِقِهَا، وَهَذَا الْعِلْمُ لَيْسَ يَحْتَاجُ فِي تَحْصِيلِهِ إِلَى كَسْبٍ وَطَلَبٍ، وَهَذَا الْبَحْثُ إِنَّمَا يَنْكَشِفُ تَمَامَ الِانْكِشَافِ بِأَبْحَاثٍ عَقْلِيَّةٍ غَامِضَةٍ، لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الكتاب. واللَّه أعلم.

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٥ الى ١٧٦]

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦)

[في قوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ رَحِمَهُمُ اللَّه: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَلْعَمَ/ بْنِ بَاعُورَاءَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَدَ بَلَدَهُ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَغَزَا أَهْلَهُ وَكَانُوا كُفَّارًا، فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمِهِ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَعِنْدَهُ اسْمُ اللَّه الْأَعْظَمُ فَامْتَنَعَ مِنْهُ، فَمَا زَالُوا يَطْلُبُونَهُ مِنْهُ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ وَوَقَعَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ بِدُعَائِهِ، فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ بِأَيِّ ذَنْبٍ وَقَعْنَا فِي التِّيهِ. فَقَالَ: بِدُعَاءِ بَلْعَمَ. فَقَالَ: كَمَا سَمِعْتَ دُعَاءَهُ عَلَيَّ، فَاسْمَعْ دُعَائِي عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَا مُوسَى عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَ مِنْهُ اسْمَ اللَّه الْأَعْظَمَ وَالْإِيمَانَ، فَسَلَخَهُ اللَّه مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَنَزَعَ مِنْهُ الْمَعْرِفَةَ. فَخَرَجَتْ مِنْ صَدْرِهِ كَحَمَامَةٍ بَيْضَاءَ فَهَذِهِ قِصَّتُهُ. وَيُقَالُ أَيْضًا: إِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّه، فَلَمَّا دَعَا عَلَيْهِ مُوسَى انْتَزَعَ اللَّه مِنْهُ الْإِيمَانَ وَصَارَ كَافِرًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَأَبُو رَوْقٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكُتُبَ، وَعَلِمَ أَنَّ اللَّه مُرْسِلٌ رَسُولًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ، فَلَمَّا أَرْسَلَ اللَّه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَسَدَهُ، ثُمَّ مَاتَ كَافِرًا، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي

قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آمن شعره وكفر قبله»

يُرِيدُ أَنَّ شِعْرَهُ كَشِعْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُوَحِّدُ اللَّه فِي شِعْرِهِ، وَيَذْكُرُ دَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ من خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ الَّذِي سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَاسِقَ كَانَ يَتَرَهَّبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ وَأَمَرَ الْمُنَافِقِينَ بِاتِّخَاذِ مَسْجِدِ ضِرَارٍ، وَأَتَى قَيْصَرَ وَاسْتَنْجَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَاتَ هُنَاكَ طَرِيدًا وَحِيدًا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ، كَانُوا يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْحَسَنِ وَالْأَصَمِّ وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِيمَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَبِي مُسْلِمٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>