للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ عَالِمٍ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الْجَاثِيَةِ: ٢٩] .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ نَجْعَلَ كَلِمَةَ (إِلَّا) فِي قَوْلِهِ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا لَكِنْ بِمَعْنَى هُوَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ «النَّظْمِ» عَنْهُ جَوَابًا آخَرَ فَقَالَ: قَوْلُهُ: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ هاهنا تَمَّ الْكَلَامُ وَانْقَطَعَ ثُمَّ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِكَلَامٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أَيْ وَهُوَ أَيْضًا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. قَالَ: وَالْعَرَبُ تَضَعُ «إِلَّا» مَوْضِعَ «وَاوِ النَّسَقِ» كَثِيرًا عَلَى مَعْنَى الِابْتِدَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النَّمْلِ:

١٠] يَعْنِي وَمَنْ ظَلَمَ. وَقَوْلُهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْبَقَرَةِ: ١٥٠] يَعْنِي وَالَّذِينَ ظَلَمُوا، وَهَذَا الْوَجْهُ فِي غَايَةِ التَّعَسُّفِ.

وَأَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : بِوَجْهٍ رَابِعٍ فَقَالَ: الْإِشْكَالُ إِنَّمَا جَاءَ إِذَا عَطَفْنَا قَوْلَهُ: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ إِمَّا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أَوْ بِحَسَبِ الْمَحَلِّ، لَكِنَّا لَا نَقُولُ ذَلِكَ، بَلْ نَقُولُ: الْوَجْهُ فِي الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ الْحَمْلُ/ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ وَفِي الْقِرَاءَةِ بِالرَّفْعِ الْحَمْلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: فِي كِتابٍ مُبِينٍ وهذا الوجه اختيار الزجاج.

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)

[في قوله تَعَالَى أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] اعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ [يُونُسَ: ٦١] مِمَّا يُقَوِّي قُلُوبَ الْمُطِيعِينَ، وَمِمَّا يَكْسِرُ قُلُوبَ الْفَاسِقِينَ فَأَتْبَعَهُ اللَّه تَعَالَى بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْمُخْلِصِينَ الصَّادِقِينَ الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّا نَحْتَاجُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ الْوَلِيَّ مَنْ هُوَ؟ ثُمَّ نُبَيِّنَ تَفْسِيرَ نَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُ فَنَقُولُ: أَمَّا إِنَّ الْوَحْيَ مَنْ هُوَ؟ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْأَثَرُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْقُرْآنُ، فَهُوَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ فَقَوْلُهُ: آمَنُوا إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ حَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَقَوْلُهُ:

وَكانُوا يَتَّقُونَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ حَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ. وَفِيهِ قيام آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ الْإِيمَانُ عَلَى مَجْمُوعِ الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، ثُمَّ نَصِفَ الْوَلِيَّ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَّقِيًا فِي الْكُلِّ. أَمَّا التَّقْوَى فِي مَوْقِفِ الْعِلْمِ فَلِأَنَّ جَلَالَ اللَّه أَعْلَى مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ عَقْلُ الْبَشَرِ، فَالصِّدِّيقُ إِذَا وَصَفَ اللَّه سُبْحَانَهُ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ، فَهُوَ يُقَدِّسُ اللَّه عَنْ أَنْ يَكُونَ كَمَالُهُ وَجَلَالُهُ مُقْتَصِرًا عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الَّذِي عَرَفَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ، وَإِذَا عَبَدَ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ يُقَدِّسُ اللَّه تَعَالَى عَنْ أَنْ تَكُونَ الْخِدْمَةُ اللَّائِقَةُ بِكِبْرِيَائِهِ مُتَقَدِّرَةً بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَبَدًا يَكُونُ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ وَالتَّقْوَى. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَكَثِيرَةٌ

رَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا فِي اللَّه عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو اللَّه إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ،

وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ يُذْكَرُ اللَّه تَعَالَى بِرُؤْيَتِهِمْ»

قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: السَّبَبُ

<<  <  ج: ص:  >  >>