[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
الْكَلَامُ فِي النبوة
/ في الآية [٢٣] مسائل:
المسألة الأولى: [في فساد قول التعليمية والحشوية] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَائِلَ الْقَاهِرَةَ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَأَبْطَلَ الْقَوْلَ بِالشَّرِيكِ عَقَّبَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ التَّعْلِيمِيَّةِ الَّذِينَ جَعَلُوا مَعْرِفَةَ اللَّهِ مُسْتَفَادَةً مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّسُولِ، وَقَوْلِ الْحَشَوِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تَحْصُلُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ، وَلَمَّا كَانَتْ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْنِيَّةً عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى كَوْنِهِ مُعْجِزًا. وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ مُعْجِزًا يُمْكِنُ بَيَانُهُ مِنْ طريقين:
الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِسَائِرِ كَلَامِ الْفُصَحَاءِ، أَوْ زَائِدًا عَلَى سَائِرِ كَلَامِ الْفُصَحَاءِ بِقَدْرٍ لَا يَنْقُضُ الْعَادَةَ أَوْ زَائِدًا عَلَيْهِ بِقَدْرٍ يَنْقُضُ، وَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ بَاطِلَانِ فَتَعَيَّنَ الثَّالِثُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُمَا بَاطِلَانِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ إِمَّا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُنْفَرِدِينَ، فَإِنْ وَقَعَ التَّنَازُعُ وَحَصَلَ الْخَوْفُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ فَالشُّهُودُ وَالْحُكَّامِ يُزِيلُونَ الشُّبْهَةَ، وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى قَوَانِينِ الْفَصَاحَةِ فِي الْغَايَةِ. وَكَانُوا فِي مَحَبَّةِ إِبْطَالِ أَمْرِهِ فِي الْغَايَةِ حَتَّى بَذَلُوا النُّفُوسَ وَالْأَمْوَالَ وَارْتَكَبُوا ضُرُوبَ الْمَهَالِكِ وَالْمِحَنِ، وَكَانُوا فِي الْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ عَلَى حَدٍّ لَا يَقْبَلُونَ الْحَقَّ فَكَيْفَ الْبَاطِلُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْإِتْيَانَ بِمَا يَقْدَحُ فِي قَوْلِهِ وَالْمُعَارَضَةُ أَقْوَى الْقَوَادِحِ، فَلَمَّا لَمْ يَأْتُوا بِهَا عَلِمْنَا عَجْزَهُمْ عَنْهَا فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُمَاثِلُ قَوْلَهُمْ، وَأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلَامِهِمْ لَيْسَ تَفَاوُتًا مُعْتَادًا فَهُوَ إِذَنْ تَفَاوُتٌ نَاقِضٌ لِلْعَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ تَقْرِيرِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ فَظَهَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا لَمْ يَكْتَفِ فِي مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ بِالتَّقْلِيدِ فَكَذَا فِي مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ لَمْ يَكْتَفِ بِالتَّقْلِيدِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِي الْقُرْآنِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ تَقْتَضِي نُقْصَانَ فَصَاحَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي الْفَصَاحَةِ بَلَغَ النِّهَايَةَ الَّتِي لَا غَايَةَ لَهَا وَرَاءَهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مُعْجِزًا، أَحَدُهَا: أَنَّ فَصَاحَةَ الْعَرَبِ أَكْثَرُهَا فِي وَصْفِ مُشَاهَدَاتٍ مِثْلَ وَصْفِ بِعِيرٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ جَارِيَةٍ أَوْ مَلِكٍ أَوْ ضَرْبَةٍ أَوْ طَعْنَةٍ أَوْ وَصْفِ حَرْبٍ أَوْ وَصْفِ غَارَةٍ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ شَيْءٌ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَحْصُلَ فِيهِ الْأَلْفَاظُ الْفَصِيحَةُ الَّتِي اتَّفَقَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهَا فِي كَلَامِهِمْ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى رَاعَى فِيهِ طَرِيقَةَ الصِّدْقِ وَتَنَزَّهَ عَنِ الْكَذِبِ فِي جَمِيعِهِ وَكُلُّ شَاعِرٍ تَرَكَ الْكَذِبَ وَالْتَزَمَ الصِّدْقَ نَزَلَ شِعْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ جَيِّدًا أَلَا تَرَى أَنَّ لَبِيدَ بْنَ رَبِيعَةَ وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ لَمَّا أَسْلَمَا نَزَلَ شِعْرُهُمَا. وَلَمْ يَكُنْ شِعْرُهُمَا الْإِسْلَامِيُّ فِي الْجَوْدَةِ كَشِعْرِهِمَا الْجَاهِلِيِّ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ مَا تَنَزَّهَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ جَاءَ بِالْقُرْآنِ فَصِيحًا كَمَا تَرَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكَلَامَ الْفَصِيحَ وَالشِّعْرَ الْفَصِيحَ إِنَّمَا يَتَّفِقُ فِي الْقَصِيدَةِ فِي الْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ وَالْبَاقِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ كُلَّهُ فَصِيحٌ بِحَيْثُ يَعْجَزُ الْخَلْقُ عَنْهُ كَمَا عَجَزُوا عَنْ جُمْلَتِهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ شِعْرًا فَصِيحًا فِي وَصْفِ شَيْءٍ فَإِنَّهُ إِذَا كَرَّرَهُ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ الثَّانِي فِي وَصْفِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ. وَفِي الْقُرْآنِ التَّكْرَارُ الْكَثِيرُ/ وَمَعَ ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي نِهَايَةِ الفصاحة ولم يظهر التفاوت أصلًا. وخامساً: أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى إِيجَابِ الْعِبَادَاتِ وَتَحْرِيمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute