وَالسَّمَاءِ مَخْلُوقَتَيْنِ بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ يُشَارِكُونَ سَائِرَ الْأَجْسَامِ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْأَشْكَالِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَخْبَارِ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمُخَصِّصَ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَافْتَقَرَ هُوَ أَيْضًا إِلَى مُخَصِّصٍ آخَرَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ الشَّبَهِ فَلَمَّا دَلَلْنَا بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِيَّةِ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُهُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ فَلَمَّا أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ يَفْتَقِرُ فِي اتِّصَافِهِ بِكُلِّ مَا اتَّصَفَ بِهِ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ بَطَلَ كَوْنُهَا آلِهَةً، وَثَبَتَ أَنَّهَا عَبِيدٌ لَا أَرْبَابٌ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الطَّلْسَمَاتِ فَقَدْ بَطَلَ أَيْضًا لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّلْسَمَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ بِوَاسِطَةِ قُوَى الْكَوَاكِبِ، فَلَمَّا دَلَّلْنَا عَلَى حُدُوثِ الْكَوَاكِبِ ثَبَتَ قَوْلُنَا وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: فَلَيْسَ في العقل ما يوجه أَوْ يُحِيلُهُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا مَنَعَ مِنْهُ وَجَبَ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ السَّادِسُ: فَهُوَ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى التَّشْبِيهِ فَثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ إِقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى افْتِقَارِ/ الْعَالَمِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ عَلَى كُلِّ التَّأْوِيلَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْيُونَانِيِّينَ كَانُوا قَبْلَ خُرُوجِ الْإِسْكَنْدَرِ عَمَدُوا إِلَى بِنَاءِ هَيَاكِلَ لَهُمْ مَعْرُوفَةٍ بِأَسْمَاءِ الْقُوَى الرُّوحَانِيَّةِ وَالْأَجْرَامِ النَّيِّرَةِ وَاتَّخَذُوهَا مَعْبُودًا لَهُمْ عَلَى حِدَةٍ، وَقَدْ كَانَ هَيْكَلُ الْعِلَّةِ الْأُولَى- وَهِيَ عِنْدُهُمُ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ- وَهَيْكَلُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ، وَهَيْكَلُ السِّيَاسَةِ الْمُطْلَقَةِ. وَهَيْكَلُ النَّفْسِ وَالصُّورَةِ مُدَوَّرَاتٍ كُلَّهَا، وَكَانَ هَيْكَلُ زُحَلَ مُسَدَّسًا. وَهَيْكَلُ الْمُشْتَرِي مُثَلَّثًا. وَهَيْكَلُ الْمِرِّيخِ مُسْتَطِيلًا، وَهَيْكَلُ الشَّمْسِ مُرَبَّعًا، وَكَانَ هَيْكَلُ الزُّهْرَةِ مُثَلَّثًا فِي جَوْفِهِ مُرَبَّعٌ وَهَيْكَلُ عُطَارِدَ مُثَلَّثًا فِي جَوْفِهِ مُسْتَطِيلٌ، وَهَيْكَلُ الْقَمَرِ مُثَمَّنًا فَزَعَمَ أَصْحَابُ التَّارِيخِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ لَمَّا سَادَ قَوْمَهُ وَتَرَأَّسَ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ وَوَلِيَ أَمْرَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ اتَّفَقَتْ لَهُ سَفْرَةٌ إِلَى الْبَلْقَاءِ فَرَأَى قَوْمًا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَسَأَلَهُمْ عَنْهَا فَقَالُوا هَذِهِ أَرْبَابٌ نَسْتَنْصِرُ بِهَا فَنُنْصَرُ، وَنَسْتَسْقِي بِهَا فَنُسْقَى. فَالْتَمَسَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُكْرِمُوهُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا فَأَعْطَوْهُ الصَّنَمَ الْمَعْرُوفَ بِهُبَلَ فَسَارَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ وَوَضَعَهُ فِي الْكَعْبَةِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى تَعْظِيمِهِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ مُلْكِ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ الْمَشْهُورَةِ «غَمْدَانَ» الَّذِي بناء الضَّحَّاكُ عَلَى اسْمِ الزُّهْرَةِ بِمَدِينَةِ صَنْعَاءَ وَخَرَّبَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَمِنْهَا «نُوبَهَارُ بَلْخَ» الَّذِي بَنَاهُ مُنُوشَهَرْ الْمَلِكُ عَلَى اسْمِ الْقَمَرِ ثُمَّ كَانَ لِقَبَائِلِ الْعَرَبِ أَوْثَانٌ مَعْرُوفَةٌ مِثْلَ «وُدٍّ» بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ لِكَلْبٍ وَ «سُوَاعٍ» لِبَنِي هُذَيْلٍ وَ «يَغُوثَ» لِبَنِي مَذْحِجٍ وَ «يَعُوقَ» لِهَمْدَانَ وَ «نَسْرٍ» بِأَرْضِ حِمْيَرٍ لِذِي الْكُلَاعِ وَ «اللَّاتِ» بِالطَّائِفِ لِثَقِيفٍ وَ «مَنَاةَ» بِيَثْرِبَ لِلْخَزْرَجِ وَ «الْعُزَّى» لِكِنَانَةَ بنواحي مكة و «أساف» و «نائلة» عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكَانَ قُصَيٌّ جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَتِهَا وَيَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ ... أَدِينُ إِذَا تَقَسَّمَتِ الْأُمُورُ
تَرَكْتُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى جَمِيعًا ... كذلك يفعل الرجل البصير
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute