بضربها بِهَا وَكَوْنِهَا حَارِسًا وَشَمْعَةً وَشَجَرَةً مُثْمِرَةً وَدَلْوًا وَرِشَاءً، فَلِأَجْلِ انْفِرَادِ الْعَصَا بِهَذِهِ الْفَضَائِلِ أُفْرِدَتْ بالذكر كقوله جبريل وَمِيكَالَ وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ نَفْسُ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ وَبِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ كَيْفِيَّةُ دَلَالَتِهَا عَلَى الصِّدْقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا وَإِنْ شَارَكَتْ سَائِرَ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كَوْنِهَا آيَاتٍ فَقَدْ فَارَقَتْهَا فِي قُوَّةِ دَلَالَتِهَا عَلَى قُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ اسْتِيلَاءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَأَنَّهُ مَا كَانَ يُقِيمُ لَهُمْ قَدْرًا وَلَا وَزْنًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مُعْجِزَاتِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا، وَأَنَّ النُّبُوَّةَ كَمَا أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ الْمُعْجِزَاتُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ صِفَتَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ شُبْهَتَهُمْ أَمَّا صِفَتُهُمْ فَأَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: الِاسْتِكْبَارُ وَالْأَنَفَةُ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَالِينَ أَيْ رَفِيعِي الْحَالِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَيَحْتَمِلُ الِاقْتِدَارَ بِالْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَأَمَّا شُبْهَتُهُمْ فَهِيَ/ قَوْلُهُمْ: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لَمْ يَقُلْ مِثْلَيْنَا كَمَا قَالَ: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النِّسَاءِ: ١٤] وَلَمْ يَقُلْ أَمْثَالَهُمْ وَقَالَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] وَلَمْ يَقُلْ أَخْيَارَ أُمَّةٍ كُلُّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيجَازَ أَحَبُّ إِلَى الْعَرَبِ مِنَ الْإِكْثَارِ وَالشُّبْهَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُمَا مِنَ الْبَشَرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْمَ مُوسَى وَهَارُونَ كَانُوا كَالْخَدَمِ وَالْعَبِيدِ لَهُمْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ من دان لملك عَابِدًا لَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ فَادَّعَى أَنَّ النَّاسَ عِبَادُهُ وَأَنَّ طَاعَتَهُمْ لَهُ عِبَادَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمَّا خَطَرَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ بِبَالِهِمْ صَرَّحُوا بِالتَّكْذِيبِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُما.
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّكْذِيبُ كَالْعِلَّةِ لِكَوْنِهِمْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ لَا جَرَمَ رَتَّبَهُ عَلَيْهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَقَالَ وَكَانُوا مِمَّنْ حَكَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِالْغَرَقِ فَإِنَّ حُصُولَ الْغَرَقِ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا عَقِيبَ التَّكْذِيبِ، إِنَّمَا الْحَاصِلُ عَقِيبَ التَّكْذِيبِ حُكْمُ اللَّه تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ كَذَلِكَ فِي الْوَقْتِ اللَّائِقِ بِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فَقَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَصَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْكِتَابِ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ لَا لِذَلِكَ التَّكْذِيبِ لَكِنْ لِكَيْ يَهْتَدُوا بِهِ فَلَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ مَعَ الْبَيَانِ الْعَظِيمِ اسْتَحَقُّوا أَنْ يُهْلَكُوا، وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَيْهِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ فِي لعلهم إلى فرعون وملائه لِأَنَّ التَّوْرَاةَ إِنَّمَا أُوتِيَهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إغراق فرعون وملائه بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [الْقَصَصِ: ٤٣] بَلِ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِشَرَائِعِهَا وَمَوَاعِظِهَا فَذَكَرَ مُوسَى وَالْمُرَادُ آلَ مُوسَى كَمَا يُقَالُ هَاشِمٌ وَثَقِيفٌ وَالْمُرَادُ قولهما.
[[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٠]]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
الْقِصَّةُ الْخَامِسَةُ- قِصَّةُ عِيسَى وَقِصَّةُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السلام
اعْلَمْ أَنَّ ابْنَ مَرْيَمَ هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى آيَةً بِأَنْ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَأَنْطَقَهُ فِي الْمَهْدِ فِي الصِّغَرِ وَأَجْرَى عَلَى يَدَيْهِ إِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى، وَأَمَّا مَرْيَمُ فَقَدْ جَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى آيَةً لِأَنَّهَا حَمَلَتْهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ تَكَلَّمَتْ مَرْيَمُ فِي صِغَرِهَا كَمَا تَكَلَّمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهَا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute