وَهُوَ الْخِذْلَانُ وَالْإِبْعَادُ، وَهُوَ ضِدُّ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْقُرْبَةِ وَالزُّلْفَى، وَأَخْبَرَ بَعْدَهُ بِأَنَّ مَنْ يَلْعَنُهُ اللَّه فَلَا نَاصِرَ لَهُ، كَمَا قَالَ: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الْأَحْزَابِ: ٦١] فَهَذَا اللَّعْنُ حَاضِرٌ، وَمَا فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ، وَهُوَ يَوْمٌ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للَّه، وَفِيهِ وَعْدٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّصْرَةِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّقْوِيَةِ، بِالضِّدِّ عَلَى الضِّدِّ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً [النِّسَاءِ: ٤٥] .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا هَذَا اللَّعْنَ الشَّدِيدَ لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ تَفْضِيلِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْرِي مَجْرَى الْمُكَابَرَةِ، فَمَنْ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّه كَيْفَ يَكُونُ أَفْضَلَ حَالًا مِمَّنْ لَا يَرْضَى بِمَعْبُودٍ غَيْرِ اللَّه! وَمَنْ كَانَ دِينُهُ الْإِقْبَالُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى خِدْمَةِ الْخَالِقِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْآخِرَةِ، كَيْفَ يَكُونُ أَقَلَّ حَالًا مِمَّنْ كَانَ بِالضِّدِّ فِي كُلِّ هذه الأحوال واللَّه أعلم.
[[سورة النساء (٤) : آية ٥٣]]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْيَهُودَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْجَهْلِ الشَّدِيدِ، وَهُوَ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، وَوَصَفَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْبُخْلِ وَالْحَسَدِ، فَالْبُخْلُ هُوَ أَنْ لَا يَدْفَعَ لِأَحَدٍ شَيْئًا مِمَّا آتَاهُ اللَّه مِنَ النِّعْمَةِ، وَالْحَسَدُ هُوَ أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ لَا يُعْطِيَ اللَّه غَيْرَهُ شَيْئًا مِنَ النِّعَمِ، فَالْبُخْلُ وَالْحَسَدُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ صَاحِبَهُ يُرِيدُ مَنْعَ النِّعْمَةِ مِنَ الْغَيْرِ، فَأَمَّا الْبَخِيلُ فَيَمْنَعُ نِعْمَةَ نَفْسِهِ عَنِ الْغَيْرِ، وَأَمَّا الْحَاسِدُ فَيُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ نِعْمَةَ اللَّه مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ تِلْكَ الْآيَةَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَهَا قُوَّتَانِ: الْقُوَّةُ الْعَالِمَةُ وَالْقُوَّةُ الْعَامِلَةُ، فَكَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَالِمَةِ الْعِلْمُ، وَنُقْصَانُهَا الْجَهْلُ، وَكَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَامِلَةِ: الْأَخْلَاقُ الْحَمِيدَةُ، وَنُقْصَانُهَا الْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ، وَأَشَدُّ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ نُقْصَانًا الْبُخْلُ وَالْحَسَدُ، لِأَنَّهُمَا مَنْشَآنِ لِعَوْدِ الْمَضَارِّ إِلَى عِبَادِ اللَّه.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّمَا قَدَّمَ وَصْفَهُمْ بِالْجَهْلِ عَلَى وَصْفِهِمْ بِالْبُخْلِ وَالْحَسَدِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُوَّةَ النَّظَرِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فِي الشَّرَفِ وَالرُّتْبَةِ وَأَصْلٌ لَهَا، فَكَانَ شَرْحُ حَالِهَا يَجِبُ/ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى شَرْحِ حَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ. الثاني: أن السبب لحصول البخل والجسد هُوَ الْجَهْلُ، وَالسَّبَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُسَبَّبِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ تَعَالَى ذِكْرَ الْجَهْلِ عَلَى ذِكْرِ الْبُخْلِ وَالْحَسَدِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْجَهْلَ سَبَبُ الْبُخْلِ وَالْحَسَدِ: أَمَّا الْبُخْلُ فَلِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ سَبَبٌ لِطَهَارَةِ النَّفْسِ وَلِحُصُولِ السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَحَبْسُ الْمَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ مَالِ الدُّنْيَا فِي يَدِهِ، فَالْبُخْلُ يَدْعُوكَ إِلَى الدُّنْيَا وَيَمْنَعُكَ عَنِ الْآخِرَةِ، وَالْجُودُ يَدْعُوكَ إِلَى الْآخِرَةِ وَيَمْنَعُكَ عَنِ الدُّنْيَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْجِيحَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ مَحْضِ الْجَهْلِ. وَأَمَّا الْحَسَدُ فَلِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْعَبِيدِ، فَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ عَزْلَ الْإِلَهِ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَذَلِكَ مَحْضُ الْجَهْلِ. فَثَبَتَ أَنَّ السَّبَبَ الْأَصْلِيَّ لِلْبُخْلِ وَالْحَسَدِ هُوَ الْجَهْلُ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْجَهْلَ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْبُخْلِ وَالْحَسَدِ لِيَكُونَ الْمُسَبَّبُ مَذْكُورًا عَقِيبَ السَّبَبِ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى نَظْمِ هذه الآية، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: «أم» هاهنا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمِيمُ صِلَةٌ، وَتَقْدِيرُهُ: أَلَهُمْ لِأَنَّ حَرْفَ «أَمْ» إِذَا لَمْ يَسْبِقْهُ اسْتِفْهَامٌ كَانَ الْمِيمُ فِيهِ صِلَةً. الثَّانِي: أن «أم» هاهنا متصلة، وقد سبق هاهنا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَلْعُونِينَ قَوْلَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُمْ أَهْدَى سَبِيلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَمِنْ ذَلِكَ يُتَعَجَّبُ، أَمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute