للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ بِهِ وَقْتَ الْمَجِيءِ بَلْ يَقُولُونَ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: ٥٢] .

وَقَوْلُهُ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أَيْ مُخْتَلِفٍ مُخْتَلِطٍ قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: لِأَنَّهُمْ تَارَةً يَقُولُونَ سَاحِرٌ وَأُخْرَى شَاعِرٌ، وَطَوْرًا يَنْسِبُونَهُ إِلَى الْكِهَانَةِ، وَأُخْرَى إِلَى الْجُنُونِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ: هَذَا بَيَانُ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بَلْ عَجِبُوا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ سَابِقٍ أُضْرِبَ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ الشَّكُّ وَتَقْدِيرُهُ:

وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، إِنَّكَ لَمُنْذِرٌ، وَإِنَّهُمْ شَكُّوا فِيكَ، بَلْ عَجِبُوا، بَلْ كَذَّبُوا. وَهَذِهِ مَرَاتِبُ ثَلَاثٌ الْأُولَى: الشَّكُّ وَفَوْقَهَا التَّعَجُّبُ، لِأَنَّ الشَّاكَّ يَكُونُ الْأَمْرَانِ عِنْدَهُ سِيَّيْنِ، وَالْمُتَعَجِّبَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ اعْتِقَادُ عَدَمِ وُقُوعِ الْعَجِيبِ لَكِنَّهُ لَا يَقْطَعُ بِهِ وَالْمُكَذِّبُ الَّذِي يَجْزِمُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ وَصَارُوا ظَانِّينَ وَصَارُوا جَازِمِينَ فَقَالَ:

فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَهُمْ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ كَوْنُهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مُرَتَّبًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَفِيمَا ذَكَرُوهُ لَا يَكُونُ مُرَتَّبًا. فَإِنْ قِيلَ: الْمَرِيجُ، الْمُخْتَلِطُ، وَهَذِهِ أُمُورٌ مُرَتَّبَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الْعَقْلِ، لِأَنَّ الشَّاكَّ يَنْتَهِي إِلَى دَرَجَةِ الظَّنِّ، وَالظَّانَّ يَنْتَهِي إِلَى دَرَجَةِ الْقَطْعِ، وَعِنْدَ الْقَطْعِ لَا يَبْقَى الظَّنُّ، وَعِنْدَ الظَّنِّ لَا يَبْقَى الشَّكُّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فَفِيهِ يَحْصُلُ الِاخْتِلَاطُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ تَرْتِيبٌ، بَلْ تَارَةً كَانُوا يَقُولُونَ كَاهِنٌ وَأُخْرَى مَجْنُونٌ، ثُمَّ كَانُوا يَعُودُونَ إِلَى نِسْبَتِهِ إِلَى الْكِهَانَةِ بَعْدَ نِسْبَتِهِ إِلَى الْجُنُونِ وَكَذَا إِلَى الشِّعْرِ بَعْدَ السِّحْرِ وَإِلَى السِّحْرِ بَعْدَ الشِّعْرِ فَهَذَا هُوَ الْمَرِيجُ. نَقُولُ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنَ الشَّكِّ إِلَى الظَّنِّ بِصِدْقِهِ لِعِلْمِهِمْ بِأَمَانَتِهِ وَاجْتِنَابِهِ الْكَذِبَ طُولَ عُمُرِهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَمِنَ الظَّنِّ إِلَى الْقَطْعِ بِصِدْقِهِ لِظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى يَدَيْهِ وَلِسَانِهِ، فَلَمَّا غَيَّرُوا التَّرْتِيبَ حَصَلَ عَلَيْهِ الْمَرَجُ وَوَقَعَ الدَّرَكُ مَعَ الْمَرَجِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فَاللَّائِقُ بِهِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذَّارِيَاتِ: ٨] لِأَنَّ مَا كَانَ يَصْدُرُ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ كَانَ قَوْلًا مُخْتَلِفًا، وَأَمَّا الشَّكُّ وَالظَّنُّ وَالْجَزْمُ فَأُمُورٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْمَرِيجِ عَلَى ظَنِّهِمْ وَقَطْعِهِمْ يُنْبِئُ عَنْ عَدَمِ كَوْنِ ذَلِكَ الْجَزْمِ صَحِيحًا لِأَنَّ الْجَزْمَ الصَّحِيحَ لَا يَتَغَيَّرُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاجِبَ التَّغَيُّرِ فَكَانَ أَمْرُهُمْ مُضْطَرِبًا، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ الْمُوَفَّقِ فَإِنَّهُ لَا يقع في اعتقاده تردد ولا يوجد معتقده تعدد. ثم قال تعالى:

[[سورة ق (٥٠) : آية ٦]]

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦)

إشارة إلى الدَّلِيلِ الَّذِي يَدْفَعُ قَوْلَهُمْ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: ٣] وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: ٨١] وقوله تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: ٥٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى [الْأَحْقَافِ: ٣٣] وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ تَارَةً تَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ وَلَا وَاوَ فِيهِ، وَتَارَةً تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَبَعْدَهَا وَاوٌ، فَهَلْ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فَرْقٌ؟ نَقُولُ فَرْقٌ أَدَقُّ مِمَّا عَلَى الْفَرْقِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: أَزَيْدٌ فِي الدَّارِ بَعْدُ، وَقَدْ طَلَعَتِ الشمس؟ يذكره للإنكار، فإذا قال: أو زيدا فِي الدَّارِ بَعْدُ، وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ؟ يُشِيرُ بِالْوَاوِ إِشَارَةً خَفِيَّةً إِلَى أَنَّ قُبْحَ فِعْلِهِ صار بمنزلة فعلين قبيحين، كأنه يقول بعد ما سَمِعَ مِمَّنْ صَدَرَ عَنْ زَيْدٍ هُوَ فِي الدَّارِ، أَغَفَلَ وَهُوَ فِي الدَّارِ بَعْدُ، لِأَنَّ الْوَاوَ تُنْبِئُ عَنْ ضَيْفِ أَمْرٍ مُغَايِرٍ لِمَا بَعْدَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَابِقٌ لَكِنَّهُ يُومِئُ بِالْوَاوِ إِلَيْهِ زِيَادَةً فِي الْإِنْكَارِ، فَإِنْ قِيلَ قَالَ فِي مَوْضِعٍ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا [الْأَعْرَافِ: ١٨٥] وقال هاهنا أَفَلَمْ يَنْظُرُوا بالفاء فما الفرق؟ نقول هاهنا سَبَقَ مِنْهُمْ إِنْكَارُ الرَّجْعِ فَقَالَ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ بِمُخَالِفِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَفِي يس سَبَقَ ذَلِكَ بقوله قال:

<<  <  ج: ص:  >  >>