للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُحَرَّمَةٌ، فَيَلْزَمُ وُجُوبُ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي الْأُصُولِ لَا بِمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُطَابِقٌ لِلْمُعْتَقَدِ، بَلْ بِمَعْنَى سُقُوطِ الْإِثْمِ عَنِ الْمُخْطِئِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ حُصُولَ الْوَعِيدِ بِتَبَيُّنِ الْهُدَى، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ تَبَيُّنُ الْهُدَى أَنْ لَا يَكُونَ الْوَعِيدُ حَاصِلًا.

وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ تَمَسُّكٌ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ وَعِيدَ الْكُفَّارِ قَطْعِيٌّ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ١١٦] وَالْقَاطِعُ لَا يُعَارِضُهُ الْمَظْنُونُ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الدِّينِ إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ حُصُولَ الْوَعِيدِ بِتَبَيُّنِ الْهُدَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَبَيُّنُ الْهُدَى مُعْتَبَرًا فِي صِحَّةِ الدِّينِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الشَّرْطِ مَعْنًى.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْهُدَى اسْمٌ لِلدَّلِيلِ لَا لِلْعِلْمِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْهُدَى اسْمًا لِلْعِلْمِ لَكَانَ تَبَيُّنُ الْهُدَى إِضَافَةَ الشَّيْءِ إلى نفسه وأنه فاسد.

[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٦ الى ١٢٢]

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠)

أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (١٢٢)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ] / اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُكَرَّرَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي تَكْرَارِهَا فَائِدَتَانِ: الْأُولَى: أَنَّ عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ وَعُمُومَاتِ الْوَعْدِ مُتَعَارِضَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَعَادَ آيَةً مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ أَعَادَ هَذِهِ الْآيَةَ دالة عَلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّكْرِيرِ إِلَّا التَّأْكِيدُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ جَانِبَ الْوَعْدِ وَالرَّحْمَةِ بِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْوَعْدِ عَلَى الْوَعِيدِ.

وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي سَارِقِ الدِّرْعِ، وَقَوْلَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء: ١١٥] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي ارْتِدَادِهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا يَحْسُنُ اتِّصَالُهَا بِمَا قَبْلَهَا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>