للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دين الإسلام، فكان ذلك إظهار الشقاق بعد ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، قَوْلُهُ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي غَيْرَ دِينِ الْمُوَحِّدِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ طُعْمَةَ تَرَكَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَاتَّبَعَ دِينَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.

ثُمَّ قَالَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى أَيْ نَتْرُكْهُ وَمَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ، وَنَكِلْهُ إِلَى مَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ.

ثُمَّ قَالَ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ يَعْنِي نُلْزِمُهُ جَهَنَّمَ، وَأَصْلُهُ الصِّلَاءُ وَهُوَ لُزُومُ النَّارِ وَقْتَ الِاسْتِدْفَاءِ وَساءَتْ مَصِيراً انْتَصَبَ مَصِيراً عَلَى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ طَابَ نَفْسًا، وَتَصَبَّبَ عَرَقًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، فَقَرَأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَمِائَةِ مَرَّةٍ حَتَّى وَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبًا، بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى أَنَّهُ تَعَالَى أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُشَاقَّةُ الرَّسُولِ وَحْدَهَا مُوجِبَةٌ لِهَذَا الْوَعِيدِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُوجِبًا لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ ضَمًّا لِمَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْوَعِيدِ إِلَى مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَثَبَتَ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ وَاجِبًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَدَمَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا كَانَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامًا، وَإِذَا كَانَ عَدَمُ اتِّبَاعِهِمْ حَرَامًا كَانَ اتِّبَاعُهُمْ وَاجِبًا، لِأَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النَّقِيضِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يُتَّبَعَ لَا سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا غَيْرُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ الْغَيْرُ، فَإِذَا كَانَ مِنْ شَأْنِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَتَّبِعُوا سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ أَتَى بِمِثْلِ فِعْلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مُتَّبِعًا لَهُمْ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاتِّبَاعُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ مُتَّبِعُونَ لِآحَادِ الْخَلْقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ يُوَحِّدُونَ اللَّه كَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ يُوَحِّدُ اللَّه، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ، بَلِ الِاتِّبَاعُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُ فِعْلُ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ تَرَكَ مُتَابَعَةَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَا وَجَدَ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَتِهِمْ دَلِيلًا، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَتَّبِعْهُمْ، فَهَذَا الشَّخْصُ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ أُخَرُ دَقِيقَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ/ الْمَحْصُولِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ عِصْمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ لَجَازَ مَنْعُهُ، وَكُلُّ مَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ عَنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ كَانَ مُشَاقِقًا لَهُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ فِي شَقٍّ غَيْرَ الشَّقِّ الَّذِي يَكُونُ الْآخَرُ فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنِ الرَّسُولِ لَوَجَبَتْ مُشَاقَّتُهُ، لَكِنَّ مُشَاقَّتَهُ مُحَرَّمَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصْدُرَ الذَّنْبُ عَنْهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَفْعَالِهِ إِذْ لَوْ كَانَ فِعْلُ الْأُمَّةِ غَيْرَ فِعْلِ الرَّسُولِ لَزِمَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شَقٍّ آخَرَ مِنَ الْعَمَلِ فَتَحْصُلُ الْمُشَاقَّةُ، لكن المشاقة

<<  <  ج: ص:  >  >>