قُلْنَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُزِيغُهُمُ ابْتِدَاءً فَعِنْدَ ذَلِكَ يَزِيغُونَ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الزَّيْغِ إِزَاغَةٌ أُخْرَى سِوَى الْأُولَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ ذَلِكَ لَا مُنَافَاةَ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أَيْ بَعْدَ أَنْ جَعَلْتَنَا مُهْتَدِينَ، وَهَذَا أَيْضًا صَرِيحٌ فِي أَنَّ حُصُولَ الْهِدَايَةِ فِي الْقَلْبِ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ: وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَاعْلَمْ أَنَّ تَطْهِيرَ الْقَلْبِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي مُقَدَّمٌ عَلَى تَنْوِيرِهِ مِمَّا يَنْبَغِي، فَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَوَّلًا أَنْ لَا يَجْعَلَ قُلُوبَهُمْ مَائِلَةً إِلَى الْبَاطِلِ والعقائد الفاسدة، ثم أنهم ابتغوا ذَلِكَ بِأَنْ طَلَبُوا مِنْ رَبِّهِمْ أَنْ يُنَوِّرَ قلوبهم بأنوار المعرفة، وجوارحهم وأعضائهم بِزِينَةِ الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: رَحْمَةً لِيَكُونَ ذَلِكَ شَامِلًا لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ، فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ نُورُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَثَانِيهَا:
أَنْ يَحْصُلَ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ نُورُ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْخِدْمَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَحْصُلَ فِي الدُّنْيَا سُهُولَةُ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ مِنَ الْأَمْنِ وَالصِّحَّةِ وَالْكِفَايَةِ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَحْصُلَ عِنْدَ الْمَوْتِ سُهُولَةُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَخَامِسُهَا: أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقَبْرِ سُهُولَةُ السُّؤَالِ، وَسُهُولَةُ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ.
وَسَادِسُهَا: أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقِيَامَةِ سُهُولَةُ الْعُقَابِ وَالْخِطَابِ وَغُفْرَانُ السَّيِّئَاتِ وَتَرْجِيحُ الْحَسَنَاتِ فَقَوْلُهُ مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَلَمَّا ثَبَتَ بِالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ الْقَاهِرَةِ أَنَّهُ لَا رَحِيمَ إِلَّا هُوَ، وَلَا كَرِيمَ إِلَّا هُوَ، لَا جَرَمَ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مِنْ لَدُنْكَ تَنْبِيهًا لِلْعَقْلِ وَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَطْلُوبُ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ لَا جَرَمَ ذَكَرَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَطْلُبُ رَحْمَةً وَأَيَّةُ رَحْمَةٍ، أَطْلُبُ رَحْمَةً مِنْ لَدُنْكَ، وَتَلِيقُ بِكَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ غَايَةَ الْعَظَمَةِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: إِلَهِي هَذَا الَّذِي طَلَبْتُهُ مِنْكَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ عَظِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيَّ، لَكِنَّهُ حَقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ كَرَمِكَ، وَغَايَةِ جُودِكَ وَرَحْمَتِكَ، فَأَنْتَ الْوَهَّابُ الَّذِي مِنْ هِبَتِكَ حَصَلَتْ حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ وَذَوَاتُهَا وَمَاهِيَّاتُهَا وَوُجُودَاتُهَا فَكُلُّ مَا سِوَاكَ فَمِنْ جُودِكَ وَإِحْسَانِكَ وَكَرَمِكَ، يَا دَائِمَ الْمَعْرُوفِ، يَا قَدِيمَ الْإِحْسَانِ، لَا تُخَيِّبْ رَجَاءَ هَذَا الْمِسْكِينِ، وَلَا تَرُدَّ دُعَاءَهُ، وَاجْعَلْهُ بِفَضْلِكَ أَهْلًا لِرَحْمَتِكَ يَا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
[[سورة آل عمران (٣) : آية ٩]]
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَصُونَهُمْ عَنِ الزَّيْغِ، وَأَنْ يَخُصَّهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مُنْقَضِيَةٌ مُنْقَرِضَةٌ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الْأَعْظَمُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ يَا إِلَهَنَا جَامِعُ النَّاسِ لِلْجَزَاءِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ وَعْدَكَ لَا يَكُونُ خُلْفًا وَكَلَامَكَ لَا يَكُونُ كَذِبًا، فَمَنْ زَاغَ قَلْبُهُ بَقِيَ هُنَاكَ فِي الْعَذَابِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَمَنْ أَعْطَيْتَهُ التَّوْفِيقَ وَالْهِدَايَةَ وَالرَّحْمَةَ وَجَعَلْتَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَقِيَ هُنَاكَ فِي السَّعَادَةِ وَالْكَرَامَةِ أَبَدَ الْآبَادِ، فَالْغَرَضُ الْأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الدُّعَاءِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ تَقْدِيرُهُ: جَامِعُ النَّاسِ لِلْجَزَاءِ فِي يَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَحُذِفَ لِكَوْنِ الْمُرَادِ ظَاهِرًا.