للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَأْكِيدِ الْحِجَارَةِ بِكَوْنِهَا مِنْ طِينٍ؟ نَقُولُ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُسَمِّي الْبَرَدَ حِجَارَةً فَقَوْلُهُ مِنْ طِينٍ يَدْفَعُ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَدَّعِي النَّظَرَ يَقُولُ لَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا حِجَارَةٌ مِنْ طِينٍ مُدَوَّرَاتٌ عَلَى هَيْئَةِ الْبَرَدِ وَهَيْئَةِ الْبَنَادِقِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا الرُّمَاةُ، قَالُوا وَسَبَبُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْإِعْصَارَ يُصْعِدُ الْغُبَارَ مِنَ الْفَلَوَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا عِمَارَةَ فِيهَا وَالرِّيَاحَ تَسُوقُهَا إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، وَيَتَّفِقُ وُصُولُ ذَلِكَ إِلَى هَوَاءٍ نَدِيٍّ، فَيَصِيرُ طِينًا رَطْبًا، وَالرَّطْبُ إِذَا نَزَلَ وَتَفَرَّقَ اسْتَدَارَ، بِدَلِيلِ أَنَّكَ إِذَا رَمَيْتَ الْمَاءَ إِلَى فَوْقُ ثُمَّ نَظَرْتَ إِلَيْهِ رأيته ينزل كرات مدورات كاللئالئ الْكِبَارِ، ثُمَّ فِي النُّزُولِ إِذَا اتَّفَقَ أَنْ تَضْرِبَهُ النِّيرَانُ الَّتِي فِي الْجَوِّ، جَعَلَتْهُ حِجَارَةً كَالْآجُرِّ الْمَطْبُوخِ، فَيَنْزِلُ فَيُصِيبُ مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ هَلَاكَهُ، وَقَدْ يَنْزِلُ كَثِيرًا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا عِمَارَةَ بِهَا فَلَا يُرَى وَلَا يُدْرَى بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: مِنْ طِينٍ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مِنْ طِينٍ كَالْحَجَرِ الَّذِي فِي الصَّوَاعِقِ لَا يَكُونُ كَثِيرًا بِحَيْثُ يُمْطِرُ وَهَذَا تَعَسُّفٌ، وَمَنْ يَكُونُ كَامِلَ الْعَقْلِ يُسْنِدُ الْفِكْرَ إِلَى مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ، فَيَقُولُ ذَلِكَ الْإِعْصَارُ لَمَّا وَقَعَ فَإِنْ وَقَعَ بِحَادِثٍ آخَرَ يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى مُحْدِثٍ لَيْسَ بِحَادِثٍ، فَذَلِكَ الْمُحْدِثُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا، وَالْمُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا ذَكَرَ وَلَهُ أَنْ يَخْلُقَ الْحِجَارَةَ مِنْ طِينٍ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ نَارٍ وَلَا غُبَارٍ، لَكِنَّ الْعَقْلَ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى الْجَزْمِ/ بِطَرِيقِ إِحْدَاثِهِ وَمَا لَا يَصِلُ الْعَقْلَ إِلَيْهِ يَجِبُ أَخْذُهُ بِالنَّقْلِ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِهِ فَأَخَذْنَا بِهِ وَلَا نَعْلَمُ الْكَيْفِيَّةَ وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ أَنَّ الْحِجَارَةَ الَّتِي مِنْ طِينٍ نُزُولُهَا مِنَ السَّمَاءِ أَغْرَبُ وَأَعْجَبُ مَنْ غَيْرِهَا، لِأَنَّهَا فِي الْعَادَةِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مكث في النار.

[[سورة الذاريات (٥١) : آية ٣٤]]

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤)

فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَكْتُوبٌ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ اسْمُ وَاحِدٍ يُقْتَلُ بِهِ ثَانِيهَا: أَنَّهَا خُلِقَتْ بِاسْمِهِمْ وَلِتَعْذِيبِهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَحْجَارِ فَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلِانْتِفَاعِ فِي الْأَبْنِيَةِ وَغَيْرِهَا ثَالِثُهَا: مُرْسَلَةٌ لِلْمُجْرِمِينَ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ يُقَالُ فِي السَّوَائِمِ يُقَالُ أَرْسَلَهَا لِتَرْعَى فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ سَوَّمَهَا بِمَعْنَى أَرْسَلَهَا وَبِهَذَا يُفَسَّرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [/ آلِ عِمْرَانَ: ١٤] إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ لِلرُّكُوبِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى الْغِنَى، كَمَا قَالَ: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْمُسْرِفِينَ إِشَارَةٌ إِلَى خِلَافِ مَا يَقُولُ الطَّبِيعِيُّونَ إِنَّ الْحِجَارَةَ إِذَا أَصَابَتْ وَاحِدًا مِنَ النَّاسِ فَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الِاتِّفَاقِ فَإِنَّهَا تَنْزِلُ بِطَبْعِهَا يَتَّفِقُ شَخْصٌ لَهَا فَتُصِيبُهُ فَقَوْلُهُ مُسَوَّمَةً أَيْ فِي أَوَّلِ مَا خُلِقَ وَأُرْسِلَ إِذَا عُلِمَ هَذَا فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ إِهْلَاكِ الْمُسْرِفِينَ، فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَتِ الْحِجَارَةُ مُسَوَّمَةً لِلْمُسْرِفِينَ فَكَيْفَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ [الذاريات: ٣٢، ٣٣] مَعَ أَنَّ الْمُسْرِفَ غَيْرُ الْمُجْرِمِ فِي اللُّغَةِ؟ نَقُولُ الْمُجْرِمُ هُوَ الْآتِي بِالذَّنْبِ الْعَظِيمِ لِأَنَّ الْجُرْمَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْعِظَمِ وَمِنْهُ جُرْمُ الشَّيْءِ لِعَظَمَةِ مِقْدَارِهِ، وَالْمُسْرِفُ هُوَ الْآتِي بِالْكَبِيرَةِ، وَمَنْ أَسْرَفَ وَلَوْ فِي الصَّغَائِرِ يَصِيرُ مُجْرِمًا لِأَنَّ الصَّغِيرَ إِلَى الصَّغِيرِ إِذَا انْضَمَّ صَارَ كَبِيرًا، وَمَنْ أَجْرَمَ فَقَدْ أَسْرَفَ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْكَبِيرَةِ وَلَوْ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَالْوَصْفَانِ اجْتَمَعَا فِيهِمْ.

لَكِنَّ فِيهِ لَطِيفَةً مَعْنَوِيَّةً، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّمَهَا لِلْمُسْرِفِ الْمُصِرِّ الَّذِي لَا يَتْرُكُ الْجُرْمَ وَالْعِلْمُ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، يَعْلَمُ أَنَّهُمْ مُسْرِفُونَ فَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِإِرْسَالِهَا عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَعِلْمُهُمْ تَعَلَّقَ بِالْحَاضِرِ وَهُمْ كَانُوا مُجْرِمُونَ فَقَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ نَعْلَمُهُمْ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً خُلِقَتْ لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ وَيُصِرُّ وَيُسْرِفُ وَلَزِمَ مِنْ هَذَا عِلْمُنَا بِأَنَّهُمْ لَوْ عَاشُوا سِنِينَ لَتَمَادَوْا فِي الْإِجْرَامِ، فَإِنْ قِيلَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَوْ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ؟ نَقُولُ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ أَيْ مُسَوَّمَةً لِهَؤُلَاءِ الْمُسْرِفِينَ إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ مُسْرِفٍ حِجَارَةٌ مُسَوَّمَةٌ، فَإِنْ قِيلَ مَا

<<  <  ج: ص:  >  >>