وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فَيَدْخُلُ فِيهِ عِلْمُهُ تَعَالَى بِتَقَدُّمِهِمْ وَتَأَخُّرِهِمْ فِي الْحُدُوثِ وَالْوُجُودِ وَبِتَقَدُّمِهِمْ وَتَأَخُّرِهِمْ فِي أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَخُصَّ الْآيَةَ بِحَالَةٍ دُونِ حَالَةٍ.
وَأما قوله: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ وَالْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ أَمْرٌ وَاجِبٌ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ في أول سورة يونس عليه السلام.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّابِعُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اسْتَدَلَّ بِتَخْلِيقِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَرْدَفَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ بِتَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْقَوْلُ بِوُجُودِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ وُجُوبُ انْتِهَاءِ الْحَوَادِثِ إِلَى حَادِثٍ أَوَّلٍ هُوَ أَوَّلُ الْحَوَادِثِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ انْتِهَاءِ النَّاسِ إِلَى إِنْسَانٍ هُوَ أَوَّلُ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الأول غير مخلوق مع الْأَبَوَيْنِ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا لَا مَحَالَةَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ، وَالْمُفَسِّرُونَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَنُقِلَ فِي «كُتُبِ الشِّيعَةِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: قَدِ انْقَضَى قَبْلَ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَبُونَا أَلْفُ أَلْفِ آدَمَ أَوْ أَكْثَرُ
وَأَقُولُ: هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ لِأَمْرٍ كَيْفَ كَانَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى إِنْسَانٍ أَوَّلٍ هُوَ أَوَّلُ النَّاسِ وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ هُوَ أَبُونَا آدَمُ، فَلَا طَرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجِسْمَ مُحْدَثٌ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَجْسَامِ يَكُونُ مَخْلُوقًا عَنْ عَدَمٍ مَحْضٍ، وَأَيْضًا دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩] عَلَى أَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، وَدَلَّتْ آيَةٌ أُخْرَى عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الطِّينِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: ٧١] وَجَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْلُوقٌ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ أَوَّلًا مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ طِينٍ ثُمَّ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ ثُمَّ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ مِنَ الْأَجْسَامِ كَانَ، بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا خَلَقَهُ عَلَى هَذَا الوجه إِمَّا لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَالَةِ الْمَلَائِكَةِ وَمَصْلَحَتِهِمْ وَمَصْلَحَةِ الْجِنِّ، لِأَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَعْجَبُ مِنْ خَلْقِ الشَّيْءِ مِنْ شَكْلِهِ وَجِنْسِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: فِي الصَّلْصَالِ قَوْلَانِ: قِيلَ الصَّلْصَالُ الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي يُصَلْصِلُ وَهُوَ غَيْرُ مَطْبُوخٍ، وَإِذَا طُبِخَ فَهُوَ فَخَّارٌ. قَالُوا: إِذَا تَوَهَّمْتَ فِي صَوْتِهِ مَدًّا فَهُوَ صَلِيلٌ، وَإِذَا تَوَهَّمْتَ فِيهِ تَرْجِيعًا فَهُوَ صَلْصَلَةٌ. قَالَ