للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُفَسِّرُونَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طِينٍ فَصَوَّرَهُ وَتَرَكَهُ فِي الشَّمْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَصَارَ صَلْصَالًا كَالْخَزَفِ وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا يُرَادُ بِهِ، وَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا مِنَ الصُّوَرِ يُشْبِهُهُ إِلَى أَنْ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ. وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ فَجَفَّ فَكَانَتِ الرِّيحُ إِذَا مَرَّتْ بِهِ سُمِعَ لَهُ صَلْصَلَةٌ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى صَلْصَالًا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الصَّلْصَالُ هُوَ الْمُنْتِنُ مِنْ قَوْلِهِمْ صَلَّ اللَّحْمُ وَأَصَلَّ إِذَا نَتَّنَ وَتَغَيَّرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَكَوْنُهُ حَمَأً مَسْنُونًا يَدُلُّ عَلَى النَّتَنِ وَالتَّغَيُّرِ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الصلصال إنما تولد من حمإ الْمَسْنُونِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ صَلْصَالًا مُغَايِرًا لِكَوْنِهِ حَمَأً مَسْنُونًا، وَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ صَلْصَالًا عِبَارَةً عَنِ النَّتَنِ وَالتَّغَيُّرِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ/ صَلْصَالًا، وَبَيْنَ كَوْنِهِ حَمَأً مَسْنُونًا تَفَاوُتٌ، وَأَمَّا الْحَمَأُ فَقَالَ اللَّيْثُ الْحَمْأَةُ بِوَزْنِ فَعْلَةٍ، وَالْجَمْعُ الْحَمَأُ وَهُوَ الطِّينُ الْأَسْوَدُ الْمُنْتِنُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَكْثَرُونَ حَمْأَةٌ بِوَزْنِ كَمْأَةٍ وَقَوْلُهُ: مَسْنُونٍ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ سمعت أبا عمرو يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: مَسْنُونٍ أَيْ مُتَغَيِّرٍ قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ يُقَالُ سَنَّ الْمَاءُ، فَهُوَ مَسْنُونٌ أَيْ تَغَيَّرَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَتَسَنَّهْ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٩] أَيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. الثَّانِي: الْمَسْنُونُ الْمَحْكُوكُ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سَنَنْتُ الْحَجَرَ إِذَا حَكَكْتَهُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا يُقَالُ لَهُ السُّنَنُ وَسُمِّي الْمَسَنُّ مَسَنًّا لِأَنَّ الْحَدِيدَ يُسَنُّ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا اللَّفْظُ مأخوذ من أنه مَوْضُوعٍ عَلَى سُنَنِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَغَيَّرَ. الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: المسنون المصبوب، والسن والصب يُقَالُ سَنَّ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِهِ سَنًّا. الْخَامِسُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَسْنُونُ الْمُصَوَّرُ عَلَى صُورَةٍ وَمِثَالٍ، مِنْ سُنَّةِ الوجه وَهِيَ صُورَتُهُ، السَّادِسُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمَسْنُونُ الطِّينُ الرَّطْبُ، وَهَذَا يَعُودُ إِلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ رَطْبًا يَسِيلُ وَيَنْبَسِطُ عَلَى الْأَرْضِ، فَيَكُونُ مَسْنُونًا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَصْبُوبٌ.

أما قوله تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْجَانَّ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِبْلِيسَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: الْجَانُّ هُوَ أَبُ الْجِنِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.

وَسُمِّيَ جَانًّا لِتَوَارِيهِ عَنِ الْأَعْيُنِ، كَمَا سُمِّيَ الْجَنِينُ جَنِينًا لِهَذَا السَّبَبِ، وَالْجَنِينُ مُتَوَارٍ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَمَعْنَى الْجَانِّ فِي اللُّغَةِ السَّاتِرُ مِنْ قَوْلِكَ: جَنَّ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرَهُ، فَالْجَانُّ المذكور هاهنا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سُمِّيَ جَانًّا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ نَفْسَهُ عَنْ أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ، أَوْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْفَاعِلِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ كَمَا يُقَالُ فِي لَابِنٍ وَتَامِرٍ وَمَاءٍ دَافِقٍ وَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِنِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ جِنْسٌ غَيْرُ الشَّيَاطِينِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الشَّيَاطِينَ قِسْمٌ مِنَ الْجِنِّ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى بِالشَّيْطَانِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْجِنِّ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِتَارِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ نارِ السَّمُومِ مَعْنَى السَّمُومِ فِي اللُّغَةِ: الرِّيحُ الْحَارَّةُ تَكُونُ بِالنَّهَارِ وَقَدْ تَكُونُ بِاللَّيْلِ، وَعَلَى هَذَا فَالرِّيحُ الْحَارَّةُ فِيهَا نَارٌ وَلَهَا لَفْحٌ وَأَوَارٌ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهَا لَفْحُ جَهَنَّمَ.

قِيلَ: سُمِّيَتْ سَمُومًا لِأَنَّهَا بِلُطْفِهَا تَدْخُلُ فِي مَسَامِّ الْبَدَنِ، وَهِيَ الْخُرُوقُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ فِي جِلْدِ الْإِنْسَانِ يَبْرُزُ مِنْهَا عَرَقُهُ وَبُخَارُ بَاطِنِهِ. قَالَ ابْنُ مسعود: هذه السموم جزء من سبعين جزأ مِنَ السَّمُومِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ بِهَا الْجَانَّ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>