للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْفَاسِدَةِ عَنْ صُدُورِهِمْ، ثُمَّ سَأَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ النُّصْرَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أُمُورٍ زَائِدَةٍ عَلَى ثَبَاتِ أَقْدَامِهِمْ، وَهُوَ كَالرُّعْبِ الَّذِي يُلْقِيهِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِحْدَاثِ أَحْوَالٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ أَرْضِيَّةٍ تُوجِبُ انْهِزَامَهُمْ، مِثْلَ هُبُوبِ رِيَاحٍ تُثِيرُ الْغُبَارَ فِي وُجُوهِهِمْ، وَمِثْلَ جَرَيَانِ سَيْلٍ فِي مَوْضِعِ وُقُوفِهِمْ، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي:

وَهَذَا تَأْدِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي كَيْفِيَّةِ الطَّلَبِ بِالْأَدْعِيَةِ عِنْدَ النَّوَائِبِ وَالْمِحَنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْجِهَادِ أَوْ غيره.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٨]]

فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ طَرِيقَةَ الرِّبِّيِّينَ فِي الصَّبْرِ، وَطَرِيقَتَهُمْ فِي الدُّعَاءِ ذَكَرَ أَيْضًا مَا ضَمِنَ لَهُمْ فِي مُقَابَلَةٍ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَالَ: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَآتاهُمُ اللَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُمُ الْأَمْرَيْنِ، أَمَّا ثَوَابُ الدُّنْيَا فَهُوَ النُّصْرَةُ وَالْغَنِيمَةُ وَقَهْرُ الْعَدُوِّ وَالثَّنَاءُ الْجَمِيلُ، وَانْشِرَاحُ الصَّدْرِ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَزَوَالُ ظُلُمَاتِ الشُّبُهَاتِ وَكَفَّارَةُ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَأَمَّا ثَوَابُ الْآخِرَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ هُوَ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ وَأَنْوَاعِ السُّرُورِ وَالتَّعْظِيمِ، وَذَلِكَ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الْحَالِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ لَهُمْ بِحُصُولِهَا فِي الْآخِرَةِ، فَأَقَامَ حُكْمَ اللَّهِ بِذَلِكَ مَقَامَ نَفْسِ الْحُصُولِ، كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ فِي وَعْدِ اللَّهِ وَالظُّلْمَ فِي عَدْلِهِ مُحَالٌ، أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ: فَآتاهُمُ عَلَى أَنَّهُ سَيُؤْتِيهِمْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْلِ: ١] أَيْ سَيَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ. قَالَ/ الْقَاضِي: وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مُخْتَصَّةً بِالشُّهَدَاءِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَيَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الرِّبِّيِّينَ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى فِي حَالِ إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ قَدْ آتَاهُمْ حُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ فِي جِنَانِ السَّمَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: خَصَّ تَعَالَى ثَوَابَ الْآخِرَةِ بِالْحُسْنِ تَنْبِيهًا عَلَى جَلَالَةِ ثَوَابِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ كُلَّهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَانْظُرْ كَيْفَ يَكُونُ حُسْنُهُ، وَلَمْ يَصِفْ ثَوَابَ الدُّنْيَا بِذَلِكَ لِقِلَّتِهَا وَامْتِزَاجِهَا بِالْمَضَارِّ وَكَوْنِهَا، مُنْقَطِعَةً زَائِلَةً، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحُسْنُ هُوَ الْحَسَنَ كَقَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [الْبَقَرَةِ: ٨٣] أَيْ حَسَنًا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ كَأَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْحَسَنَةَ لِكَوْنِهَا عَظِيمَةً فِي الْحُسْنِ صَارَتْ نَفْسَ الْحُسْنِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جُودٌ وَكَرَمٌ، إِذَا كَانَ فِي غَايَةِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٥] فَذَكَرَ لَفْظَةَ (مِنْ) الدَّالَّةِ عَلَى التَّبْعِيضِ فَقَالَ فِي الْآيَةِ: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَلِمَةَ (مِنْ) وَالْفَرْقُ: أَنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ إِنَّمَا اشْتَغَلُوا بِالْعُبُودِيَّةِ لِطَلَبِ الثَّوَابِ، فَكَانَتْ مَرْتَبَتُهُمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ نَازِلَةً، وَأَمَّا الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ إِلَّا الذَّنْبَ وَالْقُصُورَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٧] وَلَمْ يَرَوُا التَّدْبِيرَ وَالنُّصْرَةَ وَالْإِعَانَةَ إِلَّا مِنْ رَبِّهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ:

١٤٧] فَكَانَ مَقَامُ هَؤُلَاءِ فِي الْعُبُودِيَّةِ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ، فَلَا جَرَمَ أُولَئِكَ فَازُوا بِبَعْضِ الثَّوَابِ، وَهَؤُلَاءِ فَازُوا بِالْكُلِّ، وَأَيْضًا أُولَئِكَ أَرَادُوا الثَّوَابَ، وَهَؤُلَاءِ مَا أَرَادُوا الثَّوَابَ. وَإِنَّمَا أَرَادُوا خِدْمَةَ مَوْلَاهُمْ فَلَا جَرَمَ أُولَئِكَ حُرِمُوا وَهَؤُلَاءِ أُعْطُوا، لِيُعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى خِدْمَةِ اللَّهِ أَقْبَلَ عَلَى خِدْمَتِهِ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ.

ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَفِيهِ دَقِيقَةٌ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَرَفُوا بِكَوْنِهِمْ مُسِيئِينَ حَيْثُ قَالُوا:

رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا فَلَمَّا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ مُحْسِنِينَ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول لهم: