للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَحْسُنُ مِنْهُ إِيصَالُ الثَّوَابِ إِلَى الْمُحْسِنِ، بَلْ هَذَا أَلْيَقُ بِالْحِكْمَةِ وَأَقْرَبُ لِلرَّحْمَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ لِشَيْءٍ قَبْلَ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ بِشَرْطِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ، وَلَفْظُ الْبَيِّناتُ لَفْظُ جَمْعٍ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ مَشْرُوطٌ بِمَجِيءِ كُلِّ الْبَيِّنَاتِ وَقَبْلَ الشَّرْعِ لَمْ تَحْصُلْ كُلُّ الْبَيِّنَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْوَعِيدُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ قَبْلَ الشَّرْعِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ الْمُجْبِرَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مِنَ السُّفَهَاءِ وَالْكُفَّارِ: السَّفَاهَةَ وَالْكُفْرَ لَمَا جَازَ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ حَكِيمٌ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ السَّفَهَ وَأَرَادَهُ كَانَ سَفِيهًا، وَالسَّفِيهُ لَا يَكُونُ حَكِيمًا أَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْحَكِيمَ هُوَ الْعَالِمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَيَرْجِعُ مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى حَكِيمًا إِلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ خَالِقًا لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ وَمُرِيدًا لَهَا، بَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَا عُلِمَ عَدَمُهُ لَكَانَ قَدْ أَرَادَ تَجْهِيلَ نَفْسِهِ فَقَالُوا: لَوْ لَزِمَ ذَلِكَ لَكَانَ إِذَا أَمَرَ بِمَا عُلِمَ عَدَمُهُ فَقَدْ أَمَرَ بِتَجْهِيلِ نَفْسِهِ.

قُلْنَا: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرًا بِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا مَمْنُوعٌ فَإِنْ قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، قُلْنَا هَذَا عِنْدَنَا جَائِزٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُحْكَى أَنَّ قَارِئًا قَرَأَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَسَمِعَهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ إِنْ كَانَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يَقُولُ كَذَا الْحَكِيمُ لَا يَذْكُرُ الْغُفْرَانَ عِنْدَ الزَّلَلِ لِأَنَّهُ إِغْرَاءٌ عليه.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٠]]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)

اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِي لَفْظِ النَّظَرِ مَذْكُورٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: ٢٢، ٢٣] وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِيءُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النَّمْلِ: ٣٥] فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ هُوَ الِانْتِظَارُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُعْتَبِرُونَ مِنَ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَهُمَا مُحْدَثَانِ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُحْدَثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ وَالذَّهَابُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا وَالْإِلَهُ الْقَدِيمُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَا يَصِحُّ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ كَالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ شَيْئًا كَبِيرًا فَيَكُونُ أَحَدُ جَانِبَيْهِ مُغَايِرًا لِلْآخَرِ فَيَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَكُلُّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمُرَكَّبَ يَكُونُ مُفْتَقِرًا فِي تَحَقُّقُهُ إِلَى تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ فَكُلُّ مُرَكَّبٍ هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى الْمُرَجِّحِ وَالْمُوجِدِ، فَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ، وَالْإِلَهُ الْقَدِيمُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ