للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ تَرْكَ التَّقْلِيدِ وَالرُّجُوعَ إِلَى مُتَابَعَةِ الدَّلِيلِ أَوْلَى فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ، أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَدَلَ عَنْ طَرِيقَةِ أَبِيهِ إِلَى مُتَابَعَةِ الدَّلِيلِ لَا جَرَمَ جَعَلَ اللَّهُ دِينَهُ وَمَذْهَبَهُ بَاقِيًا فِي عَقِبِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا أَدْيَانُ آبَائِهِ فَقَدِ انْدَرَسَتْ وَبَطَلَتْ، فَثَبَتَ أَنَّ الرُّجُوعَ/ إِلَى مُتَابَعَةِ الدَّلِيلِ يَبْقَى مَحْمُودَ الْأَثَرِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ وَالْإِصْرَارَ يَنْقَطِعُ أَثَرُهُ وَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الدنيا خير وَلَا أَثَرٌ، فَثَبَتَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ مُتَابَعَةَ الدَّلِيلِ وَتَرْكَ التَّقْلِيدِ أَوْلَى، فَهَذَا بَيَانُ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ بَراءٌ مَصْدَرٌ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ مِثْلَ عَدْلٍ وَرِضَا وَتَقُولُ الْعَرَبُ أَنَا الْبَرَاءُ مِنْكَ وَالْخَلَاءُ مِنْكَ وَنَحْنُ الْبَرَاءُ مِنْكَ وَالْخَلَاءُ وَلَا يقولون البراآن ولا البراؤن لِأَنَّ الْمَعْنَى ذَوَا الْبَرَاءِ وَذَوُو الْبَرَاءِ فَإِنْ قُلْتَ بَرِيءٌ وَخَلِيُّ ثَنَّيْتَ وَجَمَعْتَ.

ثُمَّ اسْتَثْنَى خَالِقَهُ مِنَ الْبَرَاءَةِ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي وَالْمَعْنَى أَنَا أَتَبَرَّأُ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَكِنَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أَيْ سَيُرْشِدُنِي لِدِينِهِ وَيُوَفِّقُنِي لِطَاعَتِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٧٨] وحكى عنه هاهنا أَنَّهُ قَالَ: سَيَهْدِينِ فَأَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَقُدِّرَ كَأَنَّهُ قَالَ: فَهُوَ يَهْدِينِ وَسَيَهْدِينِ، فَيَدُلَّانِ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْهِدَايَةِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَجَعَلَها أَيْ وَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ جَارِيًا مَجْرَى لَا إِلَهَ وَقَوْلُهُ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَكَانَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ جَعَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ أَيْ فِي ذُرِّيَّتِهِ فَلَا يَزَالُ فِيهِمْ مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ وَيَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيْ لَعَلَّ مَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ يَرْجِعُ بِدُعَاءِ مَنْ وَحَّدَ مِنْهُمْ، وَقِيلَ وَجَعَلَهَا اللَّهُ، وَقُرِئَ كَلِمَةً عَلَى التَّخْفِيفِ وَفِي عَقِيبِهِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ وَهُمْ عَقِبُ إِبْرَاهِيمَ بِالْمَدِّ فِي الْعُمُرِ وَالنِّعْمَةِ فَاغْتَرُّوا بِالْمُهْلَةِ وَاشْتَغَلُوا بِالتَّنَعُّمِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَرَسُولٌ مُبِينٌ بَيَّنَ الرِّسَالَةَ وَأَوْضَحَهَا بِمَا مَعَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ فَكَذَّبُوا بِهِ وَسَمَّوْهُ سَاحِرًا وَمَا جَاءَ بِهِ سِحْرًا وَكَفَرُوا بِهِ، وَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُمْ لَمَّا عَوَّلُوا عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي الْحُجَّةِ اغْتَرُّوا بِطُولِ الْإِمْهَالِ وَإِمْتَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا فَأَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنْ قِيلَ مَا وَجْهُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَتَّعْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ؟ قُلْنَا كَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اعْتَرَضَ عَلَى ذَاتِهِ فِي قَوْلِهِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَقَالَ بَلْ مَتَّعْتُهُمْ بِمَا مَتَّعْتُهُمْ بِهِ مِنْ طُولِ الْعُمُرِ وَالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ حَتَّى شَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَعْيِيرِهِمْ لِأَنَّهُ إِذَا مَتَّعَهُمْ بِزِيَادَةِ النِّعَمِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ سَبَبًا فِي زِيَادَةِ الشُّكْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى التَّوْحِيدِ لَا أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ وَيَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا، فَمِثَالُهُ أَنْ يَشْكُوَ الرَّجُلُ إِسَاءَةَ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ أَنْتَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ بِمَعْرُوفِكَ وَإِحْسَانِكَ إِلَيْهِ، وَغَرَضُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ تَوْبِيخُ الْمُسِيءِ لَا تَقْبِيحُ فِعْلِ نفسه.

[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]

وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)

<<  <  ج: ص:  >  >>