للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الأولى: لا شك أن قوله يا وَيْلَتى كَلِمَةُ تَحَسُّرٍ وَتَلَهُّفٍ، وَفِي الْآيَةِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ كَيْفَ يُدْفَنُ الْمَقْتُولُ، فَلَمَّا تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنَ الْغُرَابِ عَلِمَ أَنَّ الْغُرَابَ أَكْثَرُ عِلْمًا مِنْهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ بِسَبَبِ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ، فَنَدِمَ وَتَلَهَّفَ وَتَحَسَّرَ عَلَى فِعْلِهِ. الثَّانِي: أنه كان عالما منه بِكَيْفِيَّةِ دَفْنِهِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ فِي الْإِنْسَانِ أَنْ لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ اسْتِخْفَافًا بِهِ، وَلَمَّا رَأَى الْغُرَابَ يَدْفِنُ الْغُرَابَ الْآخَرَ رق قلبه وقال: إن هذا الغراب لما قتل ذلك الآخر فبعد أن قتله أخفاه تحت الأرض، أفأكون أقل شفقة من هذا الغراب، وقيل: إن هذا الْغُرَابَ جَاءَ وَكَانَ يَحْثِي التُّرَابَ عَلَى الْمَقْتُولِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّ اللَّه أَكْرَمَهُ حَالَ حَيَاتِهِ بِقَبُولِ قُرْبَانِهِ. وَأَكْرَمَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ بِأَنْ بَعَثَ هَذَا الْغُرَابَ لِيَدْفِنَهُ تَحْتَ الْأَرْضِ عَلِمَ أَنَّهُ عَظِيمُ الدَّرَجَةِ عِنْدَ اللَّه/ فَتَلَهَّفَ عَلَى فِعْلِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَى أَخِيهِ إِلَّا بِأَنْ يَدْفِنَهُ فِي الْأَرْضِ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يا وَيْلَتى اعْتِرَافٌ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ وُقُوعِ الدَّاهِيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَلَفْظُهَا لَفْظُ النداء، كأن الْوَيْلَ غَيْرُ حَاضِرٍ لَهُ فَنَادَاهُ لِيَحْضُرَهُ، أَيْ أَيُّهَا الْوَيْلُ احْضُرْ، فَهَذَا أَوَانُ حُضُورِكَ، وَذِكْرُ (يا) زيادة بيان كما في قوله يا وَيْلَتى أَأَلِدُ [هُودٍ: ٧٢] واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَفْظُ النَّدَمِ وُضِعَ لِلُّزُومِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّدِيمُ نَدِيمًا لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الْمَجْلِسَ. وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ

أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»

فَلَمَّا كَانَ مِنَ النَّادِمِينَ كَانَ مِنَ التَّائِبِينَ فَلِمَ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ؟

أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْلَمِ الدَّفْنَ إِلَّا مِنَ الْغُرَابِ صَارَ مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى ظَهْرِهِ سَنَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَارَ مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ، لِأَنَّهُ لَمْ ينتفع بقتله، وسخط عليه بسببه أبواه وَإِخْوَتُهُ، فَكَانَ نَدَمُهُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً، وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَدَمَهُ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ اسْتِخْفَافًا بِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ، فلما رأى أن الْغُرَابَ دَفَنَهُ نَدِمَ عَلَى قَسَاوَةِ قَلْبِهِ وَقَالَ: هَذَا أَخِي وَشَقِيقِي وَلَحْمُهُ مُخْتَلِطٌ بِلَحْمِي وَدَمُهُ مُخْتَلِطٌ بِدَمِي، فَإِذَا ظَهَرَتِ الشَّفَقَةُ مِنَ الْغُرَابِ عَلَى الْغُرَابِ وَلَمْ تَظْهَرْ مِنِّي عَلَى أَخِي كَنْتُ دُونَ الْغُرَابِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ فَكَانَ نَدَمُهُ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، لَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَلَا جَرَمَ لَمْ يَنْفَعْهُ ذلك الندم ثم قال تعالى:

[[سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]]

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَيْ بِسَبَبِ فِعْلَتِهِ.

فَإِنْ قِيلَ عَلَيْهِ سؤالان: الأول: أن قَوْلِهِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَيْ مِنْ أَجْلِ مَا مَرَّ مِنْ قِصَّةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَصَاصَ، وَذَاكَ مُشْكِلٌ فَإِنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ وَاقِعَةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْقَصَاصِ عَلَى بَنِي

<<  <  ج: ص:  >  >>