صِفَاتِهِ، وَسُؤَالُ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، يُقَالُ: سَأَلْتُهُ دِرْهَمًا أَيْ طَلَبْتُ مِنْهُ الدِّرْهَمَ وَيُقَالُ:
سَأَلْتُهُ عَنِ الدِّرْهَمِ أَيْ سَأَلْتُهُ عَنْ صِفَةِ الدِّرْهَمِ وَعَنْ نَعْتِهِ، فَالْمُتَقَدِّمُونَ إِنَّمَا سَأَلُوا مِنَ اللَّه إِخْرَاجَ النَّاقَةِ مِنَ الصَّخْرَةِ، وَإِنْزَالَ الْمَائِدَةِ مِنَ السَّمَاءِ، فَهُمْ سَأَلُوا نَفْسَ الشَّيْءِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ مَا سَأَلُوا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ وَصِفَاتِهَا، فَلَمَّا اخْتَلَفَ السُّؤَالَانِ فِي النَّوْعِ، اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَةُ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ كِلَا الْقِسْمَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي وَصْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ خَوْضٌ فِي الْفُضُولِ، وَشُرُوعٌ فِيمَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَفِيهِ خَطَرُ الْمَفْسَدَةِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَكُونُ فِيهِ خَطَرُ الْمَفْسَدَةِ، يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ قَوْمَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ مُشَابِهُونَ لِأُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي سُؤَالِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فُضُولًا وَخَوْضًا فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ قَدْ سَأَلَها غَيْرُ عَائِدَةٍ إِلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا، بَلْ عَائِدَةٌ إِلَى سُؤَالَاتِهِمْ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَدْ سَأَلَ تِلْكَ السُّؤَالَاتِ الْفَاسِدَةَ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَلَمَّا أُجِيبُوا عَنْهَا أَصْبَحُوا بها كافرين.
[[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٣]]
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْبَحْثِ عَنْ أُمُورٍ مَا كُلِّفُوا بِالْبَحْثِ عَنْهَا كَذَلِكَ مَنَعَهُمْ عَنِ الْتِزَامِ أُمُورٍ مَا كُلِّفُوا الْتِزَامَهَا، وَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ يُحَرِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِهَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ وَإِنْ كَانُوا فِي غَايَةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فَقَالَ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: فَعَلَ وَعَمِلَ وَطَفِقَ وَجَعَلَ وَأَنْشَأَ وَأَقْبَلَ، وَبَعْضُهَا أَعَمُّ مِنْ بَعْضٍ، وَأَكْثَرُهَا عُمُومًا فَعَلَ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، أَمَّا إِنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إِنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، فَدَلِيلٌ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا إلى قوله ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
[النَّحْلِ: ٣٥] وَأَمَّا عَمِلَ فَإِنَّهُ أَخَصُّ مِنْ فَعَلَ، لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إلا على أعمال الجوارح، وال يَقَعُ عَلَى الْهَمِّ وَالْعَزْمِ وَالْقَصْدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ»
جَعَلَ النِّيَّةَ خَيْرًا مِنَ الْعَمَلِ، فَلَوْ كَانَتِ النِّيَّةُ عَمَلًا، لَزِمَ كَوْنُ النِّيَّةِ خَيْرًا مِنْ نَفْسِهَا، وَأَمَّا جَعَلَ فَلَهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْحُكْمُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: ١٩] وَثَانِيهَا:
الْخَلْقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: ١] وَثَالِثُهَا: بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزُّخْرُفِ: ٣] .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ مَا جَعَلَ اللَّهُ أَيْ مَا حَكَمَ اللَّه بِذَلِكَ وَلَا شَرَعَ وَلَا أَمَرَ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: الْبَحِيرَةُ: وَهِيَ فَعِيلَةٌ مِنَ الْبَحْرِ وَهُوَ الشَّقُّ، يُقَالُ:
بَحَرَ نَاقَتَهُ إِذَا شَقَّ أُذُنَهَا، وَهِيَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: النَّاقَةُ إِذَا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ، وَكَانَ