المسألة الثَّانِيَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي. أَيْ وَاجْعَلْ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي كَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي لِلتَّبْعِيضِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا التَّبْعِيضَ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي ذُرِّيَّتِهِ جَمْعٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
الْمَطْلُوبُ السَّادِسُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا اللَّهَ فِي الْمَطَالِبِ الْمَذْكُورَةِ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فِي أَنْ يَقْبَلَ دُعَاءَهُ فَقَالَ: رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ عِبَادَتِي بِدَلِيلِ قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مَرْيَمَ: ٤٨] .
الْمَطْلُوبُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ سَابِقَةِ الذَّنْبِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا بِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ فَكَيْفَ طَلَبَ تَحْصِيلَ مَا كَانَ قَاطِعًا بِحُصُولِهِ؟
وَالْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِالْتِجَاءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَطْعُ الطَّمَعِ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ جَازَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبَوَيْهِ وَكَانَا كَافِرَيْنِ؟
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَجِدْ منه منعا فظن كونه حائزا. الثَّانِي: أَرَادَ بِوَالِدَيْهِ آدَمَ وَحَوَّاءَ. الثَّالِثُ: كَانَ ذَلِكَ بِشَرْطِ الْإِسْلَامِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ بَاطِلًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَبَطَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الْمُمْتَحَنَةِ: ٤] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ أُمُّهُ مُؤْمِنَةً، وَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ أَبَاهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَةِ: ١١٤] وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يَقُومُ أَيْ يَثْبُتُ وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ قِيَامِ الْقَائِمِ عَلَى الرِّجْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقِهَا، وَنَظِيرُهُ قوله ترجلت الشمس، أي أشرقت وثبت ضوءها كَأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى رِجْلٍ. الثَّانِي: أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الْحِسَابِ قِيَامُ أَهْلِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ مثل قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] أي أهلها. والله أعلم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ ثُمَّ حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَصُونَهُ عَنِ الشِّرْكِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَأَنْ يَخُصَّهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْقِيَامَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَنْتَقِمْ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ إِمَّا غَافِلًا عَنْ ذَلِكَ الظَّالِمِ أَوْ عَاجِزًا عَنِ الِانْتِقَامِ، أَوْ كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْغَفْلَةُ وَالْعَجْزُ وَالرِّضَا بِالظُّلْمِ مُحَالًا عَلَى اللَّهِ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَنْتَقِمَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْسَبَ اللَّهَ موصوفا بالغفلة؟