للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرِّوَايَاتِ فَقِيلَ لَمَّا وُلِدَ إِسْمَاعِيلُ كَانَ سِنُّ إِبْرَاهِيمَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَلَمَّا وُلِدَ إِسْحَاقُ كَانَ سِنُّهُ مِائَةً وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَقِيلَ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ لِأَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً وَوُلِدَ إِسْحَاقُ لِتِسْعِينَ سَنَةً، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَمْ يُولَدْ لِإِبْرَاهِيمَ إِلَّا بَعْدَ مِائَةٍ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ: عَلَى الْكِبَرِ لِأَنَّ الْمِنَّةَ بِهِبَةِ الْوَلَدِ فِي هَذَا السِّنِّ أَعْظَمُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذَا الزَّمَانَ زَمَانُ وُقُوعِ الْيَأْسِ مِنَ الْوِلَادَةِ وَالظَّفَرُ بِالْحَاجَةِ فِي وَقْتِ الْيَأْسِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَلِأَنَّ الْوِلَادَةَ فِي تِلْكَ السِّنِّ الْعَالِيَةِ كَانَتْ آيَةً لِإِبْرَاهِيمَ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذكر هذا الدعاء عند ما أَسْكَنَ إِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ أُمَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَادِي، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا وُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ.

قُلْنَا قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الدَّلِيلُ يَقْتَضِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ فِي زَمَانٍ آخَرَ لَا عَقِيبَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدُّعَاءِ. وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الدُّعَاءَ بَعْدَ كِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَظُهُورِ إِسْحَاقَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ بِخِلَافِهِ.

البحث الثَّانِي: عَلَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْكِبَرِ بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِي ... أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ يُؤْكَلُ الْكَتِفُ

وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَمَعْنَاهُ: وَهَبَ لِي فِي حَالِ الْكِبَرِ.

البحث الثَّالِثُ: فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَذَلِكَ هُوَ كَأَنَّهُ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ إِعَانَتَهُمَا وَإِعَانَةَ ذُرِّيَّتِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهَذَا/ الْمَطْلُوبِ، بَلْ قَالَ:

رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ أَيْ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِنَا وَضَمَائِرِنَا، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَذَلِكَ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى أَنَّهُمَا يَبْقَيَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَنَّهُ مَشْغُولُ الْقَلْبِ بِسَبَبِهِمَا فَكَانَ هَذَا دُعَاءً لَهُمَا بِالْخَيْرِ وَالْمَعُونَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ وَالتَّعْرِيضِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالثَّنَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الدُّعَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الدُّعَاءِ

قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ»

ثم قال: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الدُّعَاءَ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ وَالتَّعْرِيضِ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِيضَاحِ وَالتَّصْرِيحِ قَالَ: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِالْمَقْصُودِ سَوَاءً صَرَّحْتُ بِهِ أَوْ لَمْ أُصَرِّحْ وَقَوْلُهُ: سَمِيعُ الدُّعَاءِ. مِنْ قَوْلِكَ سَمِعَ الْمَلِكُ كَلَامَ فُلَانٍ إِذَا اعْتَدَّ بِهِ وَقَبِلَهُ وَمِنْهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ.

الْمَطْلُوبُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا إِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ وَقَوْلَهُ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورَاتِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُصِرًّا عَلَى أَنَّ الْكُلَّ من الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>