للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ: إِنَّهُ أَفَاقَ مِنْ غَشْيِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الَّذِينَ مَاتُوا: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [الْبَقَرَةِ:

٥٦] .

أَمَّا قَوْلُهُ: قالَ سُبْحانَكَ أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ عَنْ أَنْ يَسْأَلَكَ غَيْرُكَ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا. الثَّانِي: تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ بِغَيْرِ إِذْنِكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّكَ لَا تُرَى فِي الدُّنْيَا أَوْ يُقَالُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ السؤال منك الا بإذنك.

[[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٤]]

قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)

اعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا طَلَبَ الرُّؤْيَةَ وَمَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهَا، عَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ وُجُوهَ نِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِشُكْرِهَا كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ إِنْ كُنْتُ قَدْ مَنَعْتُكَ الرُّؤْيَةَ فَقَدْ أَعْطَيْتُكَ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ كَذَا وَكَذَا فَلَا يَضِيقُ صَدْرُكَ بِسَبَبِ مَنْعِ الرُّؤْيَةِ وَانْظُرْ إِلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ النِّعَمِ الَّتِي خَصَصْتُكَ بِهَا وَاشْتَغِلْ بِشُكْرِهَا. وَالْمَقْصُودُ تَسْلِيَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ مَنْعِ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا أَيْضًا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا جَائِزَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَوْ كَانَتْ مُمْتَنِعَةً فِي نَفْسِهَا لَمَا كَانَ إِلَى ذِكْرِ هَذَا الْقَدْرِ حَاجَةٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الِاصْطِفَاءَ اسْتِخْلَاصُ الصَّفْوَةِ فَقَوْلُهُ: اصْطَفَيْتُكَ أَيِ اتَّخَذْتُكَ صَفْوَةً عَلَى النَّاسِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فَضَّلْتُكَ عَلَى النَّاسِ وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى اصْطَفَاهُ ذَكَرَ الْأَمْرَ الَّذِي بِهِ حَصَلَ هَذَا الِاصْطِفَاءُ فَقَالَ:

بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ بِرِسَالَتِي عَلَى الْوَاحِدِ وَالْبَاقُونَ بِرِسالاتِي عَلَى الْجَمْعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَمَنْ قَرَأَ بِرِسَالَتِي فَلِأَنَّ الرِّسَالَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْمَصْدَرِ فَيَجُوزُ إِفْرَادُهَا فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ وَإِنَّمَا قَالَ: اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ وَلَمْ يَقُلْ عَلَى الْخَلْقِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِهِ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدْ سَاوَاهُ فِي الرِّسَالَةِ؟

قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ خَصَّهُ مِنْ دُونِ النَّاسِ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ مَعَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَهَذَا الْمَجْمُوعُ مَا حَصَلَ لِغَيْرِهِ فَثَبَتَ انه انما حصل التخصيص هاهنا لِأَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ الْكَلَامَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَإِنَّمَا كَانَ الْكَلَامُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ سَبَبًا لِمَزِيدِ الشَّرَفِ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ مِنْ فَلْقِ فِيهِ كَانَ أَعْلَى حَالًا وَأَشْرَفَ مَرْتَبَةً مِمَّنْ سَمِعَهُ بِوَاسِطَةِ الْحُجَّابِ وَالنُّوَّابِ وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ. قَالَ: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ يَعْنِي فَخُذْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَلَا يَضِيقُ قَلْبُكَ بِسَبَبِ مَنْعِكَ الرُّؤْيَةَ وَاشْتَغِلْ بِشُكْرِ الْفَوْزِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَالِاشْتِغَالُ بِشُكْرِهَا إِنَّمَا يَكُونُ بالقيام بلوازمها علما وعملا. والله اعلم.

[[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٥]]

وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ خَصَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلَ تِلْكَ الرِّسَالَةِ فَقَالَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>