لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى أَحْوَالَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَنْ شَارَكَ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُشَارِكَهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَخْذِ الْأَلِيمِ الشَّدِيدِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ قَالَ الْقَفَّالُ: تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَإِشْرَاكِهِمْ باللَّه، فَإِذَا عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ دَارُ الْعَمَلِ، فَلَأَنْ يُعَذَّبُوا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ كَانَ أَوْلَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَنَبَّهَ لِهَذَا الْبَحْثِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَوَّلُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ يَكُونُ ظُهُورُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ وَالنَّشْرِ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ كَالشَّرْطِ فِي حُصُولِ الِاعْتِبَارِ بِظُهُورِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَالْمُضَادِّ لِمَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، لِأَنَّ الْقَفَّالَ يَجْعَلُ الْعِلْمَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ أَصْلًا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ، فَبَطَلَ مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَالْأَصْوَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: الْعِلْمُ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُدَبِّرَ لِوُجُودِ هَذِهِ السموات وَالْأَرْضِينَ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ لَا مُوجَبٌ بِالذَّاتِ وَمَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَأَنَّ جَمِيعَ الحوادث الواقعة في السموات وَالْأَرْضِينَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَكْوِينِهِ وَقَضَائِهِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَبِرَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِ هَذَا العالم موجب بالذات بلا فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أَيَّامِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلُ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَالْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالصَّيْحَةِ كُلُّهَا إِنَّمَا حَدَثَتْ بِسَبَبِ قِرَانَاتِ الْكَوَاكِبِ وَاتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ حُصُولُهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّا الَّذِي يُؤْمِنُ بِالْقِيَامَةِ، فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْإِيمَانُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أنه إِلَهَ الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْحَوَادِثِ الْهَائِلَةِ وَالْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ خَلَقَهَا وَأَوْجَدَهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ طَوَالِعِ الْكَوَاكِبِ وَقِرَانَاتِهَا، وَحِينَئِذٍ يَنْتَفِعُ بِسَمَاعِ هَذِهِ الْقِصَصِ، وَيَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، فَثَبَتَ بِهَذَا صِحَّةُ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْآخِرَةَ وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِوَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ خَلْقَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ كُلُّهُمْ يُحْشَرُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيُجْمَعُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا يَشْهَدُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. وَقَالَ آخَرُونَ يَشْهَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ/ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الشُّهُودِ الْحُضُورُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ أَنَّهُ رُبَّمَا وَقَعَ فِي قَلْبِ إِنْسَانٍ أَنَّهُمْ لَمَّا جُمِعُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَعْرِفْ كُلُّ أَحَدٍ إِلَّا وَاقِعَةَ نَفْسِهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْوَقَائِعَ تَصِيرُ معلومة للكل بسبب المحاسبة والمسألة.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْآخِرَةِ وَإِفْنَاءَ الدُّنْيَا موقوف على أجل معدود وكل ماله عَدَدٌ فَهُوَ مُتَنَاهٍ وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْنَى، فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تَأْخِيرَ الْآخِرَةِ سَيَنْتَهِي إِلَى وَقْتٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقِيمَ اللَّه الْقِيَامَةَ فِيهِ، وَأَنْ تَخَرَبَ الدُّنْيَا فِيهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آت قريب.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٨]
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute