للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَبِأَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا أُمُورٌ بَاطِلَةٌ لَا يَرْضَى بِالْقَتْلِ وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَارَقَ الْإِنْسَانُ الدُّنْيَا عَلَى حُبِّ اللَّهِ وَبُغْضِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ سَعَادَاتِ الْإِنْسَانِ.

فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّبْعَ وَلَوْ كَانَ يَكْرَهُ الْقِتَالَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَبِالضِّدِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مَتَى تَعَارَضَا فَالْأَكْثَرُ مَنْفَعَةً هُوَ الرَّاجِحُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّرُّ السُّوءُ وَأَصْلُهُ مِنْ شَرَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا بَسَطْتُهُ، يُقَالُ شَرَرْتُ اللَّحْمَ وَالثَّوْبَ إِذَا بَسَطْتُهُ لِيَجِفَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

وَحَتَّى أُشِرَّتْ بِالْأَكُفِّ الْمَصَاحِفُ

وَالشَّرَرُ اللَّهَبُ لِانْبِسَاطِهِ فَعَلَى هَذَا الشَّرُّ انْبِسَاطُ الْأَشْيَاءِ الضَّارَّةِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: (عَسَى) تُوهِمُ الشَّكَّ مِثْلُ (لَعَلَّ) وَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَقِينٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا كَلِمَةٌ مُطَمِّعَةٌ، فَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الشَّكِّ لِلْقَائِلِ إِلَّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الشَّكِّ لِلْمُسْتَمِعِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، أَمَّا إِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا بِمَعْنَى (لَعَلَّ) فَالتَّأْوِيلُ فِيهِ هُوَ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٣] قَالَ الْخَلِيلُ: (عَسَى) مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة: ٥٢] وقد وجد عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً [يُوسَفَ: ٨٣] وَقَدْ حَصَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ فِي الْجِهَادِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اعْتَقَدَ قُصُورَ عِلْمِ نَفْسِهِ، وَكَمَالَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُ الْعَبْدَ إِلَّا بِمَا فِيهِ خَيْرَتُهُ وَمَصْلَحَتُهُ، عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ امْتِثَالُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَكْرُوهًا لِلطَّبْعِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْعَبْدُ اعْلَمْ أَنَّ عِلْمِي أَكْمَلُ مِنْ عِلْمِكَ فَكُنْ مُشْتَغِلًا بِطَاعَتِي وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى مُقْتَضَى طَبْعِكَ فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي جَوَابِ الملائكة إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٧]]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا السَّائِلَ أَكَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرِيقَانِ الْأَوَّلُ: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَتَبَ عليهم القتال وقد كان عند القوم الشهر الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَعْظَمُ الْحُرْمَةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْقِتَالِ لَمْ يَبْعُدْ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ مُقَيَّدًا بِأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ هَذَا الزَّمَانِ وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ فَدَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَيَحِلُّ لَنَا قِتَالُهُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ كَانَ من المسلمين.