للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَصْلًا، مِنْ حَيْثُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْفَقَ لِكَيْ يَمُنَّ، وَلَمْ يُنْفِقْ لِطَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ، فَلَا جَرَمَ بَطَلَ الْأَجْرُ، طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْجَوَابِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الانفاق قد صح، ولذلك قال:

ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا وَكَلِمَةُ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي، وَمَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْإِنْفَاقِ مُوجِبٌ لِلثَّوَابِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْمُتَأَثِّرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا حَالَ حُصُولِ الْمُؤَثِّرِ لَا بَعْدَهُ.

أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذِكْرَ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْإِنْفَاقِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ الْمُتَأَخِّرَ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى أَنَّهُ حِينَ أَنْفَقَ مَا كَانَ إِنْفَاقُهُ لِوَجْهِ اللَّهِ، بَلْ لِأَجْلِ التَّرَفُّعِ عَلَى النَّاسِ وَطَلَبِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ إِنْفَاقُهُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلثَّوَابِ وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّ هذا الشرط متأخر، ولكن لم يجوز أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَأْثِيرَ الْمُؤَثِّرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ لَا يُوجَدَ بَعْدَهُ مَا يُضَادُّهُ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْمُوَافَاةِ، وَتَقْرِيرُهُ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ دَلَّتْ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى مِنَ الْكَبَائِرِ، حَيْثُ تَخْرُجُ هَذِهِ الطَّاعَةُ الْعَظِيمَةُ بِسَبَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ أَنْ تُفِيدَ ذَلِكَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ.

أَمَّا قَوْلُهُ لَهُمْ أَجْرُهُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ يُوجِبُ الْأَجْرَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: حُصُولُ الْأَجْرِ بِسَبَبِ الْوَعْدِ لَا بِسَبَبِ نَفْسِ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ وَأَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ الْأَجْرَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَفْيِ الْإِحْبَاطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ حَاصِلٌ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ حَاصِلًا لَهُمْ بَعْدَ فِعْلِ الْكَبَائِرِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْإِحْبَاطِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِالْعَامِّ لِإِرَادَةِ الْخَاصِّ، وَمَتَى جَازَ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ/ لَمْ تَكُنْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، وَذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ دَلَائِلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومَاتِ عَلَى الْقَطْعِ بِالْوَعِيدِ.

أَمَّا قَوْلُهُ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ إِنْفَاقَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَضِيعُ، بَلْ ثَوَابُهُ مُوَفَّرٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَخَافُونَ مِنْ أَنْ لَا يُوجَدَ، وَلَا يَحْزَنُونَ بِسَبَبِ أَنْ لَا يُوجَدَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه: ١١٢] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْبَتَّةَ، كَمَا قَالَ: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْلِ: ٨٩] وَقَالَ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ١٠٣] .

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٣ الى ٢٦٥]

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)