[في قَوْلُهُ تَعَالَى قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ] أَمَّا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ، فَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَقْبَلُهُ القلوب ولا تنكره، والمراد منه هاهنا أَنْ يَرُدَّ/ السَّائِلَ بِطَرِيقِ جَمِيلٍ حَسَنٍ، وَقَالَ عطاء: عدة حَسَنَةٌ، أَمَّا الْمَغْفِرَةُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْفَقِيرَ إِذَا رُدَّ بِغَيْرِ مَقْصُودِهِ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَرُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى بَذَاءَةِ اللِّسَانِ، فَأَمَرَ بِالْعَفْوِ عَنْ بَذَاءَةِ الْفَقِيرِ وَالصَّفْحِ عَنْ إِسَاءَتِهِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَنَيْلُ مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ بِسَبَبِ الرَّدِّ الْجَمِيلِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ أَنْ يَسْتُرَ حَاجَةَ الْفَقِيرِ وَلَا يَهْتِكَ سِتْرَهُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ رَدُّهُ بِأَحْسَنِ الطُّرُقِ وَبِالْمَغْفِرَةِ أَنْ لَا يَهْتِكَ سِتْرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ حَالَهُ عِنْدَ مَنْ يَكْرَهُ الْفَقِيرُ وُقُوفَهُ عَلَى حَالِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ قوله قَوْلٌ مَعْرُوفٌ خطاب مع المسؤول بِأَنْ يَرُدَّ السَّائِلَ بِأَحْسَنِ الطُّرُقِ، وَقَوْلُهُ وَمَغْفِرَةٌ خطاب مع السائل بأن يعذر المسؤول فِي ذَلِكَ الرَّدِّ، فَرُبَّمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ فِعْلَ الرَّجُلِ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى، وَسَبَبُ هَذَا التَّرْجِيحِ أَنَّهُ إِذَا أَعْطَى، ثُمَّ أَتْبَعَ الْإِعْطَاءَ بِالْإِيذَاءِ، فَهُنَاكَ جَمْعٌ بَيْنَ الْإِنْفَاعِ وَالْإِضْرَارِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَفِ ثَوَابُ الْإِنْفَاعِ بِعِقَابِ الْإِضْرَارِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ فَفِيهِ إِنْفَاعٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِيصَالَ السُّرُورِ إِلَى قَلْبِ الْمُسْلِمِ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْإِضْرَارُ، فَكَانَ هَذَا خَيْرًا مِنَ الْأَوَّلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي التَّطَوُّعِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ، وَلَا رَدُّ السَّائِلِ مِنْهُ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَاجِبُ، وَقَدْ يَعْدِلُ بِهِ عَنْ سَائِلٍ إِلَى سَائِلٍ وَعَنْ فَقِيرٍ إِلَى فَقِيرٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ الْعِبَادِ فَإِنَّمَا أَمَرَكُمْ بِهَا لِيُثِيبَكُمْ عليها حَلِيمٌ إذا لَمْ يُعَجِّلْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَنْ يَمُنُّ وَيُؤْذِي بِصَدَقَتِهِ، وَهَذَا سُخْطٌ مِنْهُ وَوَعِيدٌ لَهُ ثُمَّ إنه تعالى وصف هذين النوعين على الْإِنْفَاقِ أَحَدَهُمَا:
الَّذِي يَتْبَعُهُ الْمَنُّ وَالْأَذَى وَالثَّانِيَ: الَّذِي لَا يَتْبَعُهُ الْمَنُّ وَالْأَذَى، فَشَرَحَ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَضَرَبَ مَثَلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَقَالَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: الَّذِي يَتْبَعُهُ المن والأذى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ، الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ إِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَأَزَالَ كُلَّ شُبْهَةٍ لِلْمُرْجِئَةِ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يُبْطِلَانِ الصَّدَقَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ وَقَعَتْ وَتَقَدَّمَتْ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَبْطُلَ فَالْمُرَادُ إِبْطَالُ أَجْرِهَا وَثَوَابِهَا، لِأَنَّ الْأَجْرَ لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ فَيَصِحُّ إِبْطَالُهُ بِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ لِكَيْفِيَّةِ إِبْطَالِ أَجْرِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى مَثَلَيْنِ، فَمَثَّلَهُ أَوَّلًا: بِمَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كَافِرٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، لِأَنَّ بُطْلَانَ أَجْرِ نَفَقَةِ هَذَا الْمُرَائِي الْكَافِرِ أَظْهَرُ مِنْ بُطْلَانِ أَجْرِ صَدَقَةِ مَنْ يُتْبِعُهَا الْمَنَّ وَالْأَذَى، ثُمَّ مَثَّلَهُ ثَانِيًا: بِالصَّفْوَانِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ تُرَابٌ وَغُبَارٌ، ثُمَّ أَصَابَهُ الْمَطَرُ الْقَوِيُّ، فَيُزِيلُ ذَلِكَ الْغُبَارَ عَنْهُ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ غُبَارٌ وَلَا تُرَابٌ أَصْلًا، فَالْكَافِرُ كَالصَّفْوَانِ، وَالتُّرَابُ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ وَالْوَابِلُ كَالْكُفْرِ الَّذِي يُحْبِطُ عَمَلَ/ الْكَافِرِ، وَكَالْمَنِّ وَالْأَذَى اللَّذَيْنِ يُحْبِطَانِ عَمَلَ هَذَا الْمُنْفِقِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute