وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ الَّذِينَ اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي الْكِتَابِ، فَقَبِلُوا بَعْضَ كُتُبِ اللَّهِ وَرَدُّوا الْبَعْضَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى حَيْثُ قَبِلُوا بَعْضَ كُتُبِ اللَّهِ وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَرَدُّوا الْبَاقِيَ وَهُوَ الْقُرْآنُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّةِ تَحْرِيفِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِأَجْلِ عَدَاوَتِكَ هُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَمُنَازَعَةٍ شَدِيدَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَلْتَفِتَ إِلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْعَدَاوَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُؤَالَفَةٌ وَمُوَافَقَةٌ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِمُحَمَّدٍ هَؤُلَاءِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُمْ كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى عَدَاوَتِكَ وَغَايَةِ الْمُشَاقَّةِ لَكَ فَلِهَذَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْوَعِيدِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيفِ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّحْرِيفِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُكَذِّبُ صَاحِبَهُ وَيُشَاقُّهُ وَيُنَازِعُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِكَذِبِهِمْ بِقَوْلِهِمْ فَلَا يَكُونُ قَدْحُهُمْ فِيكَ قَادِحًا فيك ألبتة، والله أعلم.
[[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
[الحكم الثالث]
اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ الْبِرَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمَّا شَدَّدُوا فِي الثَّبَاتِ عَلَى التَّوَجُّهِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرُّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ مُخَاطَبَةُ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ نَالُوا الْبُغْيَةَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا يُحِبُّونَ ذَلِكَ فَخُوطِبُوا بِهَذَا الْكَلَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلْكُلِّ لِأَنَّ عِنْدَ نَسْخِ الْقِبْلَةِ وَتَحْوِيلِهَا حَصَلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الِاغْتِبَاطُ بِهَذِهِ الْقِبْلَةِ وَحَصَلَ مِنْهُمُ التَّشَدُّدُ فِي تِلْكَ الْقِبْلَةِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ الْغَرَضُ الْأَكْبَرُ فِي الدِّينِ فَبَعَثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِأَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَإِنَّمَا الْبِرُّ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالظَّاهِرِ إِذْ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَيْسَ الْبِرُّ الْمَطْلُوبُ هُوَ أَمْرَ الْقِبْلَةِ، بَلِ الْبِرُّ الْمَطْلُوبُ هَذِهِ الْخِصَالُ الَّتِي عَدَّهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ «لَيْسَ» فِعْلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ حُرِّفَ، حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِعْلٌ اتِّصَالُ الضَّمَائِرِ بِهَا الَّتِي لَا تَتَّصِلُ إِلَّا بِالْأَفْعَالِ كَقَوْلِكَ: لَسْتُ وَلَسْنَا وَلَسْتُمْ وَالْقَوْمُ لَيْسُوا قَائِمِينَ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَنْقُوضَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّنِي وَلَيْتَنِي وَلَعَلَّ وَحُجَّةُ الْمُنْكِرِينَ أَوَّلُهَا: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِعْلًا لَكَانَتْ مَاضِيًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِعْلًا، بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ فِعْلٌ قَالَ: إِنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا اتِّفَاقُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهُ لِنَفْيِ الْحَالِ، وَلَوْ كَانَ مَاضِيًا لَكَانَ لِنَفْيِ الْمَاضِي لَا لِنَفْيِ الْحَالِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَنَقُولُ: لَيْسَ يَخْرُجُ زَيْدٌ، وَالْفِعْلُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ «لَيْسَ» دَاخِلٌ عَلَى ضَمِيرِ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الضَّمِيرِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ لَوْ جاز
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute