[[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٥]]
إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)
[في قوله تعالى إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ إلى قوله تعالى يَوْمِ الْقِيامَةِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي إِذْ قَوْلُهُ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أَيْ وُجِدَ هَذَا الْمَكْرُ إِذْ قَالَ اللَّهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: ذَاكَ إِذْ قَالَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْتَرَفُوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَّفَ عِيسَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَةِ: ١١٧] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ، وَلَا تَأْخِيرٍ فِيهَا وَالثَّانِي: فَرْضُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهَا، أَمَّا الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَعْنَى قَوْلِهِ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُتَمِّمٌ عُمُرَكَ، فَحِينَئِذٍ أَتَوَفَّاكَ، فَلَا أَتْرُكُهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكَ، بَلْ أَنَا رَافِعُكَ إِلَى سَمَائِي، وَمُقَرِّبُكَ بِمَلَائِكَتِي، وَأَصُونُكَ عَنْ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِكَ وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ وَالثَّانِي: مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُمِيتُكَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالُوا: وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَصِلَ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى قَتْلِهِ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَكْرَمَهُ بِأَنْ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: قَالَ وَهْبٌ: تُوُفِّيَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ رُفِعَ وَثَانِيهَا: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: تُوُفِّيَ سَبْعَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ أَحْيَاهُ اللَّهُ وَرَفَعَهُ الثَّالِثُ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّهُ تَعَالَى تَوَفَّاهُ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزُّمَرِ: ٤٢] .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ، فَأَمَّا كَيْفَ يَفْعَلُ، وَمَتَى يَفْعَلُ، فَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَ الدَّلِيلُ أَنَّهُ حَيٌّ
وَوَرَدَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ سَيَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ»
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَتَوَفَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي التَّأْوِيلِ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عَنْ شَهَوَاتِكَ وَحُظُوظِ نَفْسِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِرْ فَانِيًا عَمَّا سِوَى اللَّهِ لَا يَكُونُ لَهُ وُصُولٌ إِلَى مَقَامِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَأَيْضًا فَعِيسَى لَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ صَارَ حَالُهُ كَحَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي زَوَالِ الشَّهْوَةِ، وَالْغَضَبِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا، وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ هُوَ رُوحُهُ لَا جَسَدُهُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ بِتَمَامِهِ إِلَى السَّمَاءِ بِرُوحِهِ وَبِجَسَدِهِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
[النِّسَاءِ: ١١٣] .
وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ أَجْعَلُكَ كَالْمُتَوَفَّى لِأَنَّهُ إِذَا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ وَأَثَرُهُ عَنِ الْأَرْضِ كَانَ كَالْمُتَوَفَّى، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى مَا يُشَابِهُهُ فِي أَكْثَرِ خَوَاصِّهِ وَصِفَاتِهِ جَائِزٌ حَسَنٌ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ هُوَ الْقَبْضُ يُقَالُ: وَفَّانِي فُلَانٌ دَرَاهِمِي وَأَوْفَانِي وَتَوَفَّيْتُهَا مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: سَلَّمَ فُلَانٌ دَرَاهِمِي إِلَيَّ وَتَسَلَّمْتُهَا مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا تُوُفِّيَ بِمَعْنَى اسْتَوْفَى وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ كَانَ إِخْرَاجُهُ مِنَ