وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْآخِرَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى السَّعَادَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، وَالدُّنْيَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَالْآخِرَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الدُّنْيَا لَذَّاتُهَا مَخْلُوطَةٌ بِالْآلَامِ، وَالْآخِرَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ، وَالْآخِرَةَ بَاقِيَةٌ، وَالْبَاقِيَ خَيْرٌ مِنَ الْفَانِي. ثُمَّ قَالَ:
[[سورة الأعلى (٨٧) : آية ١٨]]
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨)
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِلَفْظِ (هَذَا) مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَمِيعُ السُّورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالْوَعْدِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ هُوَ مِنْ قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: ١٤] إِشَارَةً إِلَى تَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي. أَمَّا الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ فَعَنْ جَمِيعِ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَأَمَّا فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَعَنْ جميع الأخلاق الذمية.
وأما قوله: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ [الأعلى: ١٥] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ الرُّوحِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تعالى، وأما قوله:
فَصَلَّى [الأعلى: ١٥] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ الْجَوَارِحِ وَتَزْيِينِهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا [الأعلى: ١٦] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الزَّجْرِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الدنيا.
وأما قوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى: ١٧] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ وَفِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ أُمُورٌ لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى وَهَذَا الْوَجْهُ كما تأكد بالعقل فَالْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ،
رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ هَلْ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى؟ فَقَالَ: اقْرَأْ يَا أبا ذر قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: ١٤]
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ قَوْلَهُ (هَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى فَهُوَ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٦] وَقَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: ١٣] . وقوله تعالى:
[[سورة الأعلى (٨٧) : آية ١٩]]
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)
فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بيان لقوله: لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الأعلى: ١٨] وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي صُحُفِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي مِنْهَا صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى،
رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ؟ فَقَالَ: مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، عَلَى آدَمَ عَشْرَ صُحُفٍ وَعَلَى شِيثٍ خَمْسِينَ صَحِيفَةً وَعَلَى إِدْرِيسَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفَرْقَانَ،
وَقِيلَ: إِنَّ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ: يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِلِسَانِهِ عَارِفًا بِزَمَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.