للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ

فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَفِي الْآخِرَةِ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ.

وَالثَّانِي: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْجَنَّةِ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ أَمْرٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنْذِرَ مَنْ فِي زَمَانِهِ فَيَصْلُحَ بِأَنْ يَجْعَلَ هَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ أَرَادَ بِهِ اخْتِلَافَ جَمِيعِهِمْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْإِنْذَارُ فَهُوَ التَّخْوِيفُ مِنَ الْعَذَابِ لِكَيْ يَحْذَرُوا مِنْ تَرْكِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا يَوْمُ الْحَسْرَةِ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مِنْ حَيْثُ يَكْثُرُ التَّحَسُّرُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَقِيلَ يَتَحَسَّرُ أَيْضًا فِي الْجَنَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّابِقِينَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْحَسْرَةَ غَمٌّ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الثَّوَابِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ فَفِيهِ وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ بِبَيَانِ الدَّلَائِلِ وَشَرْحِ أَمْرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَثَانِيهَا: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ يَوْمَ الْحَسْرَةِ بِفَنَاءِ الدُّنْيَا وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِقَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ ظَهَرَتِ الْحُجَجُ وَالْبَيِّنَاتُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَثَالِثُهَا:

رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: قُضِيَ الْأَمْرُ: «فَقَالَ حِينَ يُجَاءُ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُذْبَحُ وَالْفَرِيقَانِ يَنْظُرَانِ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا عَلَى فَرَحٍ وَأَهْلُ النَّارِ غَمًّا عَلَى غَمٍّ»

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَوْتَ عَرَضٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ/ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا مَوْتَ الْبَتَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أَيْ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَعَنْ كَيْفِيَّةِ حَسْرَتِهِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ بِذَلِكَ الْيَوْمِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها أَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ تَؤُولُ إِلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى: وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أَيْ إِلَى مَحَلِّ حُكْمِنَا وَقَضَائِنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ حَتَّى يَكُونَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَهَذَا تَخْوِيفٌ عَظِيمٌ وَزَجْرٌ بليغ للعصاة.

القصة الثالثة: قصة إبراهيم عليه السلام.

[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٤٥]

وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)

اعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحَشْرِ، وَالْمُنْكِرُونَ لِلتَّوْحِيدِ هُمُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَعْبُودًا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ مَعْبُودًا غَيْرَ اللَّهِ حَيًّا عَاقِلًا فَاهِمًا وَهُمُ النَّصَارَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ مَعْبُودًا غَيْرَ اللَّهِ جَمَادًا لَيْسَ بِحَيٍّ وَلَا عَاقِلٍ وَلَا فَاهِمٍ وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَالْفَرِيقَانِ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الضَّلَالِ إِلَّا أَنَّ ضَلَالَ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَعْظَمُ فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى ضَلَالَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ تَكَلَّمَ فِي ضَلَالِ الْفَرِيقِ الثَّانِي وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فَقَالَ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ تعالى واذكر عطف على قوله: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم: ٢] كَأَنَّهُ لَمَّا انْتَهَتْ قِصَّةُ عِيسَى وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَالَ قَدْ ذَكَرْتَ حَالَ زَكَرِيَّا فَاذْكُرْ حَالَ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذِكْرِهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ هُوَ وَلَا قَوْمُهُ وَلَا أَهْلُ بَلْدَتِهِ مُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ كَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ وَمُعْجِزًا قَاهِرًا دَالًّا عَلَى نُبُوَّتِهِ. وإنما شرع

<<  <  ج: ص:  >  >>