للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صُورَةَ دَلِيلٍ وَعَجَزْتُ أَنَا عَنِ الْقَدْحِ فِيهِ، وَهَذَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ بَيْنَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ فَعِنْدَ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ هُوَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، لِأَنَّ السَّاكِتَ الْمُنْقَطِعَ يَقُولُ فِي الدَّلِيلِ الْآخَرِ مَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ فَلَا يَجِدُ أَمْرًا إِلَّا الْيَمِينَ، فَيَقُولُ وَاللَّهِ إِنِّي لَسْتُ مُكَابِرًا وَإِنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرْتُ وَلَوْ عَلِمْتُ خِلَافَهُ لَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَهَهُنَا يَتَعَيَّنُ الْيَمِينُ، فَكَذَلِكَ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لَمَّا أَقَامَ الْبَرَاهِينَ وَقَالَتِ الْكَفَرَةُ: مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ ... وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سَبَأٍ: ٤٣] تَعَيَّنَ التَّمَسُّكُ بِالْأَيْمَانِ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الدَّلِيلِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُجَرَّدَ الْحَلِفِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ خَرَجَ فِي صُورَةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ مُرْسَلًا هُوَ الْمُعْجِزَةُ وَالْقُرْآنُ كَذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يُذْكَرْ فِي صُورَةِ الدَّلِيلِ؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الدَّلِيلِ فِي صُورَةِ الْيَمِينِ؟ قُلْنَا الدَّلِيلُ أَنَّ ذِكْرَهُ «١» فِي صُورَةِ الْيَمِينِ قَدْ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ سَامِعٌ فَلَا يَقْبَلُهُ فُؤَادُهُ فَإِذَا ابْتُدِئَ بِهِ عَلَى صُورَةِ الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ لَا يَقَعُ لَا سِيَّمَا مِنَ الْعَظِيمِ الْأَعْلَى أَمْرٌ عَظِيمٌ وَالْأَمْرُ الْعَظِيمُ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ فَلِصُورَةِ الْيَمِينِ تَشْرَئِبُّ إِلَيْهِ الْأَجْسَامُ، وَلِكَوْنِهِ دَلِيلًا شَافِيًا يَتَشَرَّبُهُ الْفُؤَادُ فَيَقَعُ فِي السَّمْعِ وَيَنْفَعُ فِي الْقَلْبِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُ الْقُرْآنِ حَكِيمًا عِنْدَهُمْ لِكَوْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولًا، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَسَمٍ، نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً بَيِّنٌ إِنْ أَنْكَرُوهُ قِيلَ لَهُمْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَالثَّانِي:

أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَثِقُ بِيَمِينِ غَيْرِهِ إِلَّا إِذَا حَلَفَ بِمَا يُعْتَقَدُ عَظَمَتُهُ، فَالْكَافِرُ إِنْ حَلَفَ بِمُحَمَّدٍ لَا نُصَدِّقُهُ كَمَا نُصَدِّقُهُ لَوْ حَلَفَ بِالصَّلِيبِ وَالصَّنَمِ، وَلَوْ حَلَفَ بِدِينِنَا الْحَقِّ لَا يُوثَقُ بِمِثْلِ مَا يُوثَقُ بِهِ لَوْ حَلَفَ بِدِينِهِ الْبَاطِلِ وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أن النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ يُعَظِّمُونَ الْقُرْآنَ فَحَلِفُهُ بِهِ هُوَ الذي يوجب ثقتهم به. وقوله تعالى:

[[سورة يس (٣٦) : آية ٤]]

عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)

خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ أَنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَالْمُسْتَقِيمُ/ أَقْرَبُ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقْصِدِ وَالدِّينِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَوَلَّى عَنْ غَيْرِهِ وَالْمَقْصِدُ هُوَ اللَّهُ وَالْمُتَوَجِّهُ إِلَى الْمَقْصِدِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُوَلِّي عَنْهُ وَالْمُتَحَرِّفِ مِنْهُ وَلَا يَذْهَبُ فهم أحد إلى أن قوله إنك منهم عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مُمَيِّزٌ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَ النَّاسِ مُجْتَبًى لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بَيَانُ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الْمُرْسَلُونَ وَقَوْلُهُ: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ يُعْلَمُ مِنْهُ فَسَادُ قَوْلِ الْمُبَاحِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْمُكَلَّفُ يَصِيرُ وَاصِلًا إِلَى الْحَقِّ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرْسَلِينَ مَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا فَهُمْ سَالِكُونَ سَائِحُونَ مُهْتَدُونَ مُنْتَهِجُونَ إِلَى السبيل المستقيم فكيف ذلك الجاهل العاجز. وقوله تعالى:

[[سورة يس (٣٦) : آية ٥]]

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥)

قُرِئَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِعْلُهُ مَنْوِيٌّ كَأَنَّهُ قَالَ نُزِّلَ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ نَزَلَ الْقُرْآنُ أَوِ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ مَنْوِيٍّ كأنه قال والقرآن الحكيم أعني


(١) في الأصل «أن ذكر لا» ولما كان لا معنى لها فمما لا شك فيه أنها مصحفة عما ذكرناه، لأن كتابة الهاء المربوطة في الخط قريبة من «لا» في الصورة فهي مصحفة عنها.

<<  <  ج: ص:  >  >>