هَذِهِ الْفِرَقِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُمْ إِذَا آمَنُوا بِاللَّهِ فَلَهُمُ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ لِيَعْرِفَ أَنَّ جَمِيعَ أَرْبَابِ الضَّلَالِ إِذَا رَجَعُوا عَنْ ضَلَالِهِمْ وَآمَنُوا بِالدِّينِ الْحَقِّ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَلُ إِيمَانَهُمْ وَطَاعَتَهُمْ وَلَا يَرُدُّهُمْ عَنْ حَضْرَتِهِ الْبَتَّةَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ الْإِيمَانُ بِمَا أَوْجَبَهُ، أَعْنِي الْإِيمَانَ بِرُسُلِهِ وَدَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ قَدْ جَمَعَا كُلَّ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَدْيَانِ فِي حَالِ التَّكْلِيفِ وَفِي حَالِ الْآخِرَةِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عِنْدَ رَبِّهِمْ فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعِنْدِيَّةَ الْمَكَانِيَّةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا/ الْحِفْظَ كَالْوَدَائِعِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ أَجْرَهُمْ مُتَيَقَّنٌ جَارٍ مَجْرَى الْحَاصِلِ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَقِيلَ: أَرَادَ زَوَالَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْآخِرَةِ فِي حَالِ الثَّوَابِ، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ عَامٌّ فِي النَّفْيِ، وَكَذَلِكَ:
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا وَخُصُوصًا فِي الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَنْفَكُّونَ مِنْ خَوْفٍ وَحُزْنٍ، إِمَّا فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَعَدَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِالْأَجْرِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مِنْ صِفَةِ ذَلِكَ الْأَجْرِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَعِيمُهُمْ دَائِمًا لِأَنَّهُمْ لَوْ جَوَّزُوا كَوْنَهُ مُنْقَطِعًا لَاعْتَرَاهُمُ الْحُزْنُ الْعَظِيمُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أن الله تعالى ذكر هذه الآية في سُورَةِ الْمَائِدَةِ هَكَذَا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْمَائِدَةِ: ٦٩] وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الْحَجِّ: ١٧] فَهَلْ فِي اخْتِلَافِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِتَقْدِيمِ الصُّنُوفِ وَتَأْخِيرِهَا وَرَفْعِ «الصَّابِئِينَ» فِي آيَةٍ وَنَصْبِهَا فِي أُخْرَى فَائِدَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ فَلَا بُدَّ لِهَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ مِنْ حِكَمٍ وَفَوَائِدَ، فَإِنْ أَدْرَكْنَا تِلْكَ الْحِكَمَ فَقَدْ فُزْنَا بِالْكَمَالِ وَإِنْ عَجَزْنَا أَحَلْنَا الْقُصُورَ عَلَى عُقُولِنَا لَا عَلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ والله أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الْعَاشِرُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لِمَصْلَحَتِهِمْ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ:
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمِيثَاقَ إِنَّمَا يَكُونُ بِفِعْلِ الْأُمُورِ الَّتِي تُوجِبُ الِانْقِيَادَ وَالطَّاعَةَ، وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْمِيثَاقِ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: مَا أَوْدَعَ اللَّهُ الْعُقُولَ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَحِكْمَتِهِ وَالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَوَاثِيقِ أَقْوَى الْمَوَاثِيقِ/ وَالْعُهُودِ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْخُلْفَ وَالتَّبْدِيلَ بِوَجْهٍ الْبَتَّةَ وَهُوَ قول الأصم، وثانيها: مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ بِالْأَلْوَاحِ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ فِيهَا كِتَابَ اللَّهِ فَقَالُوا: لَنْ نَأْخُذَ بِقَوْلِكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَيَقُولُ: هَذَا كِتَابِي فَخُذُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: خُذُوا كِتَابَ اللَّهِ فَأَبَوْا فَرُفِعَ فَوْقَهُمُ الطُّورُ وَقِيلَ لَهُمْ: خُذُوا الْكِتَابَ وَإِلَّا طَرَحْنَاهُ عَلَيْكُمْ، فَأَخَذُوهُ فَرَفْعُ الطُّورِ هُوَ الْمِيثَاقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَفْعَ الطُّورِ آيَةٌ بَاهِرَةٌ عَجِيبَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute